حينما تضع الأمم ثقلها على الجامعات، فإنها تراهن على المنافسة في التطوّر الحضاري للشعوب؛ على اعتبار أن الجامعة هي المؤسسة التعليمية التي تصوغ المعرفة وتُقدّمها، كما تبني العقول وتطوّر البحث لخدمة البشرية. ويعي المسؤولون عن التعليم العالي في بلادنا هذه الحقيقة التي تتطلّب المضي قدمًا في التطوير واستثمار جميع الفرص للنهوض بالتعليم الجامعي. والحق، أن السنوات القليلة الماضية شهدت حركة إيجابية في هذا الصدد، لم تقف عند الشكليات في المباني والأثاث والديكور، بل شملت صلب العمل الأكاديمي الحقيقي لتطوير أركان التعليم وهم: عضو هيئة التدريس، والطالب، والبحث العلمي، ومايتصل بهذه الأركان من عوامل مساعدة. ولعله من المفيد، في هذا المجال، الاطلاع على تجارب الدول المتقدّمة التي قطعت شوطًا طويلا في التعليم الجامعي للانتفاع بما يناسبنا من الخبرات النظرية والإجرائية. ويسرني أن أقدّم للقراء الكرام كتابًا صدر مؤخرًا (في 12 يناير 2010م) بعنوان: "الجامعة الأمريكية العظيمة" The Great American University، لمؤلفه: جوناثان كول (Jonathan Cole)، الذي حظي باهتمام واسع في أمريكا، وقد تكرّم الدكتور عبدالجليل عبدالقادر، الأستاذ في قسم علم وظائف الأعضاء بكلية الطب بجامعة الملك سعود، بإعارتي هذا الكتاب الذي حصل عليه قبل أيام من أمريكا؛ فله خالص الشكر والتقدير. ويعتبر المؤلف جوناثان كول رائدًا في علم اجتماع العلوم ومرشدًا مثاليًا، وناطقًا باسم المجمع الأكاديمي في الولاياتالمتحدة، فقد أمضى أكثر من خمسين عامًا في جامعة كولومبيا، درس فيها طالبًا عام 1960 وحصل على درجة البكالوريوس في التاريخ عام 1964، ثم انتقل إلى علم الاجتماع وحصل على درجة الدكتوراه في 1969. وبعد سنوات أصبح أستاذًا لعلم الاجتماع في كولومبيا نفسها، بخلاف المعتاد في الجامعات الأمريكية، فعمل منذ عام 1989 حتى عام 2003 عميدًا ومديرًا للكليات (مديرها الأكاديمي الرئيسي) قبل عودته إلى التدريس ثانية. وقد ألف الكتاب خلال سنوات، استقرأ فيها تجربته في جامعة كولومبيا مع مقارنتها ببقية الجامعات الأمريكية، مستعينًا بجهود وآراء وخبرات عديدة ضمّها هذا الكتاب الذي يقع في 616 صفحة. يقول المؤلف في مقدمة كتابه: «أود أن أقدّم لهذا الجمهور المهم، العامة جميعًا، فهمًا لأصول مفهوم جامعة البحث الأمريكية والقيم التي شكلت تصميمها، فقد احتاجت هذه الجامعات نصف قرن أو نحوه كي تصل إلى هذه المرتبة العالمية. وأريد أن أشير إلى ما عانته حتى حققت ذلك، وأقدم دليلاً على أن قمم التفوق هذه ليست بروجًا عاجية، لأنها -بدلاً من ذلك- تُسْهِم في تقدم حياتنا، حيث يقطن علماء موهوبون وباحثون داخل هذه البروج ويصنعون اكتشافات مهمة بالنسبة إلينا جميعًا». والكتاب يبحث في الأسباب الثقافية والتاريخية المركبة التي تكمن وراء البروز العالمي للتعليم العالي الأمريكي، ويرصد المساهمات المهمّة التي قدّمتها جامعات البحث الأمريكية، وما زالت تقدّمها لأمريكا وللعالم. ويُوضّح أهمية دور الجامعات الرائدة وتأثيرها العميق في نوعية حياة الأمريكي. وعرض تحليلاً مفصّلاً ومنطقيًا للظروف الأساسية في عمل هذه المؤسسات والمخاطر التي يمكن أن تُهدّد نجاحها المستمر. ويؤكد "كول" في كتابه على ضرورة استمرار الجامعات العريقة في اكتشاف أنواع جديدة من المعرفة وأنماط جديدة من التفكير، في سبيل تكوين طلاب أفضل. ويرى أنه «إذا ما أردنا أن نخطو بنجاح نحو الحفاظ على القيادة في البحث والاقتصاد الأمريكي في القرن الحادي والعشرين، فلابد من إدراك هذه المهمة الأكاديمية بصورة حسنة ودعمها وتوكيدها». وهو ينطلق من أن الكثير من التطورات التي جرت في القرن السابق في عدد من المجالات -بما فيها البحث الطبي ودراسة الجينات والفيزياء والهندسة وحتى في العلوم الاجتماعية والإنسانية- يعود إلى العمل الرائد الذي قامت به هذه المؤسسات وإلى روح الحرّية الأكاديمية والبحث الحرّ الذي تجسّده. يقول تورستن ن. ويسيل (Torsten N. Wiesel)، الرئيس الفخري لجامعة روكفيلر، والحائز على جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب، عن هذا الكتاب: «كتب جوناثان كول كتابًا بارعًا، لابد أن يقرأه الجميع ويستمتعوا به، ولاسيما من يريد إرشاد العقول الشابة وتعليمها». (وللحديث بقية)