قرأت كتاب «ثلاثة ملوك في بغداد» لمؤلفه العقيد جيرالد دي غوري وهو ضابط مؤثر في حياة بغداد آنذاك بعد نزع السلطة التركية وإحلال السلطة البريطانية.. الكتاب يروي تفاصيل مثيرة عن ذلك العهد، وكيف كان الوعي مبكراً بتلاقي وجهات نظر قومية تسعى إلى وجود بلد عربي مستقل وافر الثروة والتعليم المبكر.. هناك مآسي خلافات، لكن هناك شعارات تطور بالتأكيد لم تكن معروفة في الجزيرة العربية، حيث كان الحس العراقي يسعى إلى تقارب القوميات، خصوصاً وأن لبغداد إرثاً تاريخياً لا ننكر عروبته، وفي ذات الزمن، أي قبل ما يقارب المئة عام، كانت تنطلق من سوريا وجهات نظر توحد قومي، ويتداول الناس الصحافة ويتحدثون عن ضرورة توحد عربي.. الشيء نفسه من ناحية الوجود الحضاري كانت هناك في دول عربية أخرى موجودات تعليم جامعي مبكر، وتلاق اجتماعي في واجهات برلمانية ويقرأ الناس وجهات نظر صحفية.. كيف كانت الجزيرة العربية وقتها؟.. هنا تبرز أهميات شخصية الملك عبدالعزيز - رحمه الله - حيث خرج في سن شبابه ليصنع وحدة بداوة شاملة لتتحول إلى وجود دولة.. كان مَنْ يتقاسمون سلطة التواجد في مواقع جغرافية متجاورة يتعاملون بتعاطي عداوة فروسية بادية ليس للمجتمع نصيب في جدولة نشاطاتها الصراعية، بقدر ما كانت فروسية الأفراد رمزاً هائل الصيت يتنازعون على احتواء مكانته.. الملك عبدالعزيز الذي أحاط نفسه بثقافة عربية متنوعة ووعي إلى وحدة دولة لا إلى وحدة قبيلة مسيطرة، وحدة مجتمع لا توزع صراعات فئات متعددة العداوات.. وقت أن كانت العواصم العربية تبشر حداثة أوضاعها بأنها ستصل إلى هذا العصر وهي ضمن الواجهات الحضارية، بينما الفئات القبلية في الجزيرة العربية لم تكن تختلف بشيء عن ظاهرة التشرّد والتسابق الدموي على مواقع نزول الأمطار في إهمال وطني واجتماعي امتد منذ العصر الأموي وحتى بداية كتابة العقيد البريطاني كتابه، وبالتالي فقبْل عبدالعزيز كان التوقع أن تبقى الجزيرة العربية مجرد هامش دول عربية أخرى.. عبقرية عبدالعزيز نأت به أن يكون فارس اختلاف مع آخرين، ولكنها حفّزته أن يكون ظاهرة فريدة تفرض وجود دولة ثم وحدة مجتمع.. حالياً لنقارن بين الاستقرار في الجزيرة العربية وحالات التطور التعليمي والاقتصادي والتقني الذي يعيشه مجتمع المملكة، وبين صعوبة أن يوجد تطور مماثل في مجتمعات خلقت قبلية جديدة كالعرقيات أو الطوائف أو حزبية السيادات الفردية.. لذيذ جداً أن تتأمل هذا النص الشعري الشعبي الذي سبق أن تناولته في موضوع سابق.. يقول الشاعر: نطيت أنا الداب وأنيابه مشاويك والله وقاني من أسباب المنيه يا رجل لو هو مصيبك وين أداويك وادواك يم الحسا صعب عليه بين صعوبة الوصول إلى «الحسا» وسهولة ما تتيحه جامعة الملك عبدالله وجامعة نورة من تفوقات علمية مسافات قطعناها بنجاح وفشل غيرنا في الوصول إليها..