السعي وراء الرزق الحلال مطلب شرعي أساسي لا تدوم الحياة ولا تتطور الأمم بدون استمرار وتيرته. فطلب الرزق والسعي في الحياة هو المسؤول عن جميع النشاطات الحياتية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو أمنية أو عسكرية أو علمية أو سياسية أو غيرها من النشاطات التي تصب محصلتها في توفير سبل العيش الأفضل لبني الإنسان. ذلك أن الله سخر الناس بعضهم لبعض حتى تعمر الأرض وتستمر عجلة الحياة. من هذه المنطلقات نجد أن حب الاستحواذ وحب التملك جزء لا يتجزأ من الممارسات الإنسانية السائدة التي جبل الإنسان عليها. وهذه التوجيهات والممارسات تظل ممارسات مقبولة إذا كانت وسائلها شرعية ولا تلحق الضرر بالآخرين. أما إذا أصبح الاستحواذ نهماً تستخدم في سبيل تحقيقه وسائل غير شرعية تتبلور وتنتشر وتخلق ثقافة تمجده وتتشكل في سبيل ذلك لوبيات تتحالف لتشكل بؤر فساد تهلك النسل والحرث فإن ذلك غير مقبول بل يجب الوقوف اتجاه بوادره بكل حزم حتى لا يستشري وينتشر. إن ثقافة الاستحواذ غير المشروع تصنف الناس إلى طبقات يتغطرس فيها المليء ويحتقر ويمتهن فيها الفقير، وإذا حصل مثل ذلك فإن ذلك نذير بخروج المجتمع عن مساره الصحيح، وهو بداية لتحولات اجتماعية غير مرغوبة. ذلك أن ثقافة الاستحواذ الانتهازي تخلق طبقة غير نزيهة وتؤدي إلى فرز اجتماعي لا تحمد عواقبه حيث إن ذلك يؤدي إلى أن يتراكم المال عند القلة ويصبح الحرمان من نصيب الأغلبية. وهذا من أهم بوادره زيادة رقعة الفقر وانقراض الطبقة المتوسطة في المجتمعات. إن من يمارس الاستحواذ غير الشرعي لا يدفع الضرائب ولا يخلص في العمل ويلجأ إلى الغش والكذب ويأكل حقوق الآخرين ظلماً وبهتاناً. ومثل هؤلاء يمكن أن يكونوا أفراداً أو جماعات أو مؤسسات أو شركات أو حتى حكومات ودول. والاستحواذ غير المشروع أصبح له ثقافة خاصة ينطوي تحت لوائها كل من فسدت نيته، فعلى مستوى الأفراد نجد أن الأنانية واللائمة والدلال وفساد الأخلاق وسوء التربية وفقدان القيم من أهم عوامله. وعلى مستوى المؤسسات والشركات نجد أن المنافسة غير الشريفة وضعف الوقاية والمسعى وراء الربح السريع والفاحش ناهيك عن الأفكار. وخدمة أجندات سرية من أهم العوامل المساعدة عليه. أما على مستوى الدول فإن للأطماع العسكرية والأمنية والاقتصادية والأيديولوجية والسياسية دوراً رئيسياً في إذكائها خصوصاً إذا وجدت لوبيات تخطط الليل والنهار وتعمل في السر والعلن في سبيل الاستحواذ على حقوق الآخرين وأراضيهم ومقدساتهم والمسيطرة على مصادر القوة لديهم أو المناطق الاستراتيجية أو تفتيت الكيانات القائمة بواسطة بث بذور الفتنة والخلاف من خلال الإرهاب والطائفية والعصبية كما هو قائم في فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان واليمن وعلى امتداد الساحة العربية والإسلامية، ولا شك أن كل ذلك إرهاصات لمرض قائم يستشري وينتشر، وكلما تقدم الزمن استعصى علاجه إلا أنه الكيان الصهيوني بكل جذوره وامتداداته وتشعباته داخل المنطقة وخارجها. إن ثقافة الاستحواذ غير الشرعي والذي يمثل الفساد المالي والإداري بعض ملامحه أخذ هذه الأيام بالانتشار في المجتمعات البشرية انتشار النار في الهشيم خصوصاً في المجتمعات العربية والإسلامية. وهذا يعني أن وراء ذلك الانتشار المتخصص مؤسسات ومخابرات ودول ترعاه وتشجعه وذلك في سبيل نخر الكيانات العربية الإسلامية من الداخل. فالفساد مثله مثل جرثومة المرض فهي تقوى وتتكاثر وتنتشر بمجرد ضعف مقاومة الجسم لها. لذلك فإن الملام الأول هو ضعف التصدي لمثل تلك الأمراض والعلل. إن ثقافة الاستحواذ غير المشروع أصبحت تؤسس للظلم والقهر والعدوان وتعلي من قيمة الأشرار في مختلف الشؤون والمحافل حتى أصبح صاحب الحق إرهابياً والمجرم المعتدي ديمقراطياً وفي سبيل تحقيق ذلك تم استغلال المنظمات الدولية واستخدام قراراتها مظلة للاستحواذ على حقوق ومقدرات الآخرين. ناهيك عن الاستحواد على الإعلام الذي أصبح عجلة تدار من أجل إلصاق التهم وتشويه الثقافات وابتزاز الشعوب وتشويه المعتقدات والرموز خصوصاً الإسلامية منها. لقد استغلت الثورة في مجال تقنية المعلومات والاتصالات ووسائل الإعلام الأخرى من أجل الترويج لثقافة الاستحواذ بجميع أنواعه وأشكاله. وفي سبيل ذلك أًصبح للزحف الاستحواذي التملكي والاستهلاكي وسائله، حيث أصبح لكل مؤسسة من مؤسسات الاستحواذ برامجها الخاصة ووسائلها الفريدة التي تستطيع من خلالها التأثير على النفوس والعقول والعواطف والأبدان من أجل تعميق ثقافة الاستحواذ والتملك والاستهلاك. نعم إن مؤسسات الدعاية والإعلان والترويج لها دور فاعل وبناء إذا واءمت بين المصداقية والتعريف بالسلعة ولكنها إذا حادت عن ذلك وأصبح همها الدعاية بصرف النظر عن المصداقية فإنها تدخل ضمن ماكينات ودواليب تخدم الاستحواذ غير المشروع، وذلك لأن مؤسسات الاستحواذ غير المشروع تعيش على سذاجة البسطاء القادرين على دفع فواتير تلك المؤسسات تحت شعارات الخدمات الإضافية. ولقد تنبهت الشركات الصناعية والإنتاجية المختلفة مثل شركات الكمبيوتر وصناعة السيارات والجوالات وغيرها من السلع والأدوات إلى البعد الاستهلاكي واتجهت إلى تقصير العمر الزمني لتلك المنتجات من خلال جعل الجديد يتقادم خلال فترة زمنية قصيرة وذلك من خلال تطوير ذلك المنتج وإيجاد ما هو أفضل منه وبالتالي يظل الناس غير راضين وغير سعداء بما يملكون. وهذا يضمن لتلك الشركات استمرار الحاجة اللامتناهية عند الناس فتجدهم يتابعون كل جديد بغض النظر عن الآثار الاقتصادية وربما النفسية والصحية والاجتماعية التي ربما تترتب على ذلك النوع من الاستحواذ الاستهلاكي بالنسبة للمستهلك والاستحواذي الجبار بالنسبة للمصنع والمنتج الذي يسعى بكل ما أوتي من قوة من أجل استمرار القوة الشرائية لبضائعه ومنتجاته. إن مثل ذلك الاستحواذ يظل مشروعاً لكن التضليل والجهل وغياب التوعية تظل عوامل مساعدة لتفشي ثقافة الاستهلاك غير الرشيد. إن ثقافة الاستهلاك من خلال ثقافة الاستحواذ هي التي تؤدي إلى نشوء أجيال ليس لها هم سوى الاستحواذ بصرف النظر عن الحاجة الحقيقية لما يتم الاستحواذ عليه، لذلك فإنه من الأهمية بمكان أن نعلم أجيالنا الصاعدة ثقافة الترشيد وأهمية تغليب الجوهر على المظهر، وأن نزرع في عقولهم أن المظاهر الكذابة والجوفاء لا تقدم بل هي عامل أساسي من عوامل التخلف والتقهقر. إن من يستمرئون الاستحواذ غير المشروع في الغالب لا يقيمون للقيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية أي احترام، وبالتالي تجدهم متغطرسين ومتكبرين. فعلى الرغم من توفر جميع وسائل الراحة لهم تجدهم غير مرتاحين وعلى الرغم من توفر جميع وسائل الترفيه لهم تجدهم غير مترفين وعلى الرغم من توفر المال لهم إلا أنهم غير مقتنعين بما لديهم وهذا سببه الجشع الذي يذهب مال من جمع. ناهيك عن أنهم في حالة تنافس داخلي مع من هو أقدر منهم وتعالى وتكبر وتجبر على من هو أقل منهم مالاً. لذلك فإن أنسب وصف لمثل هؤلاء أنهم معتوهون ومرضى نفسيون. نعم إن للاستحواذ غير المشروع صوراً وأشكالاً مختلفة فمنها الفساد المالي والإداري ومنها خلق محافظ استثمارية وهمية وجمع المال من خلالها ثم اختفاء تلك الأموال، ومنها الغش في المواصفات سواء كانت صناعية أو إنشائية ومنها الاتجار بالمحرمات مثل المخدرات والرذيلة ومنها استيراد زبالة المصانع وبيعها على الناس وذلك بمثل تلك المنتجات التي تباع عند بعض المحلات ولا تعمر إلا يوماً أو يومين أو أقل. ومنها الغش في تنفيذ البنى التحتية مثل تلك التي حدثت في جدة وتحدث في غيرها ومنها المساهمات المتعثرة ومنها التلاعب في سوق الأسهم من خلال الاستحواذ على أسهم بعض الشركات والعمل على رفع سعرها بصورة وهمية ومن ثم بيعها. ومنها تجفيف السوق من الحديد حتى يرتفع سعره وهذا ينطبق على المواد والخدمات الأخرى. أعود لأقول إن الاستحواذ بحد ذاته عملية تجارية لا غبار عليها إذا تمت وفق القانون والنظام ولكنه يصبح سرقة وغشاً وبهتاناً إذا تم عن طريق الغش والفساد والتعمية والتضليل وعدم الاخلاص في العمل. وتظل النفس البشرية ضعيفة لا تقتنع بما تملك فهي كالنار كلما زدتها حطباً زادت استعاراً. ولكن التربية الجيدة ووجود الضمير الحي ومراقبة الله في السر والعلن والخوف من القانون والنظام ونظرة المجتمع عوامل تتكاتف وتقوّم النفس البشرية. والنفس راغبة إذا رغبتها وإن ترد إلى قليل تقنع