مما لا شك فيه أن الأزمات العالمية تختلف في الوقت الحاضر عن تلك الأزمات التي دارت رحاها أيام الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.. فالأزمات التي نشبت أيام الحرب الباردة تميزت بأنها ذات صفة عسكرية وأمنية في المقام الأول، بينما الأزمات التي تدور رحاها في الوقت الحاضر فإنها ذات صبغة اقتصادية.. وهذا هو الذي جعل الأحداث والوقائع والمؤامرات تتشابك، والمتتبع لهذه الأزمات يجدها عديدة وكثيرة تتراوح بين أزمة الطاقة العالمية والتنافس على تأمين منابعها أو الاستحواذ عليها من قبل طرف على حساب الأطراف الأخرى حتى لو أدى ذلك إلى استخدام القوة العسكرية واحتلال الدول أو التهديد بها، مروراً بأزمة الغش التجاري، والمنافسة التجارية والتعريفات الجمركية أو أزمة الإغراق التي تنتهجها بعض الشركات أو الدول للاضرار بالخصم أو أزمة سرقة التقنيات والاختراعات، أو أزمة التهريب، والإرهاب أو غيرها من الوسائل التي تستهدف الاقتصاد بصورة مباشرة أو غير مباشرة. لا شك أيضاً أن بروز أهمية العامل الاقتصادي وتقدم أهميته على العوامل الأخرى هو الذي حدا بالدول المتقدمة إلى تحويل اهتمام وأنشطة وكالات المخابرات لديها من القيام بالتجسس العسكري على المطارات، ومرابض الصواريخ، وبطاريات المدفعية، ومواقع تموين الجيش وأعداد ورواتب الجنود أو أساليب التسليح والتدريب إلى التجسس على المختبرات وما تتيحه من تقنيات حديثة، وعلى أساليب التسويق والاسعار، ومواطن تواجد المواد الخام، والاحتياطيات الفعلية والمحتملة، ومعدلات النمو، والقدرة الاستهلاكية والشرائية، والشركات والصناعات المنافسة في كل دولة من دول العالم بغض النظر عن كونه صديقاً أو حليفاً أو عدواً. نعم لقد أصبح التنافس التجاري أكثر وضوحاً لذلك فإن العالم شهد ويشهد وسوف يشهد مزيداً من التجسس الصناعي والتجاري، فكل يوم تنشب أزمة اقتصادية يكون أحد أطرافها واشنطن، أو طوكيو، أو باريس، أو بون، أو لندن، أو بكين أو غيرها من العواصم العالمية الفاعلة، ومما يشهد على نشاط وكالات المخابرات المختلفة في مجال التجسس الاقتصادي ما أشار إليه تقرير وكالة المخابرات الألمانية والذي يتهم جميع الدول بالتكالب والصراع على جمع المعلومات العلمية والتكنولوجية، حيث أشار التقرير إلى وجود مئات العملاء الروس والتشيك والسلوفاك والصينيين والإسرائيليين والأمريكيين بالإضافة إلى عملاء وكالات مخابرات الدول الغربية الأخرى منتشرين في كل مكان سواء كان ذلك في الدول المتقدمة أو في أروقة الدول النامية.. وخلص التقرير إلى أن الجميع يتجسس على الجميع في جميع المجالات الاقتصادية الهامة سواء كان ذلك في مجال التجارة أو الزراعة أو المحافظة على الأسواق القديمة أو فتح أسواق جديدة ناهيك عن العمل على تحويل اهتمامات الآخرين من المجالات التي يتمتعون فيها بمزايا نسبية إلى مجالات أبعد ما تكون عن ملاءمتها لهم وذلك عن طريق تقديم المشورة الملغمة أو الضغط وذلك في سبيل استنزاف قواهم وذلك لضمان استمرار الضحية على الاعتماد على مساعداتهم ودعمهم المقرون بشروط وضوابط تخدم أجندتهم ومصالحهم على المدى الطويل. ومن ناحية أخرى أشار التقرير السنوي للأمن القومي الكندي لعام 1993م أن الأسرار العلمية والأبحاث التكنولوجية الكندية التي استغرق إعدادها سنوات طويلة وكلفت ملايين الدولارات قد سرقت ونقلت إلى مصانع وشركات خارج كندا. وأشار التقرير إلى أن هناك حرباً خفية يقودها جواسيس الاقتصاد في أكثر من (25) دولة.. وهذا يهدد الإنجازات التي حققتها الشركات الكندية بجهد وأموال شركاتها وعلمائها.. وفي هذا الصدد أشارت تقارير إدارة مكافحة التجسس الفرنسية إلى أن الأمريكيين جعلوا من التجسس الاقتصادي هدفهم الأول ولذلك فإن عدد الجواسيس الذين يعملون لمصلحة أمريكا في فرنسا يتجاوز الثمانين عميلاً.. وهذا ما شكل قلقاً في الأوساط الرسمية الفرنسية مما اضطرهم إلى طرد خمسة من موظفي السفارة الأمريكية هناك.. وفي هذا الصدد أيضاً يمكن الإشارة إلى أن اليابان في بداية نهضتها وما زالت تولي التجسس الصناعي والتقني والاقتصادي أهمية كبيرة، كما أن الصين أغرقت أوروبا وأمريكا بجواسيسها التقنيين والاقتصاديين. من هذا المنطلق يتبين أن أسرار البحث العلمي والاختراعات والتقنيات الحديثة المتقدمة أصبحت بيت القصيد فيما تبحث عنه أجهزة المخابرات لكي تتم سرقته والاستحواذ عليه.. لهذا فإن الأساليب القديمة في التجسس قد تأخرت إلى المرتبة الثانية وربما الثالثة من حيث الأهمية.. والذي يشد الانتباه في عالم التجسس المعاصر انه أصبح في كثير من الأحوال شبه مشروع حيث ان جواسيس اليوم يقدمون أوراقهم الثبوتية تحت مسميات أخرى للجهات الرسمية وهي تعلم في كثير من الأحيان أو تشك في نشاطاتهم ليس هذا فحسب، بل انهم يقومون بإعداد الأسئلة والاستبانات ويرسلونها إلى الجهات الرسمية للحصول على المعلومات التي يبحثون عنها أو التي تساعدهم على بعض الاستنتاجات التي يمكن أن تتضمنها تقاريرهم ناهيك عن أنهم أصبحوا يملكون حرية أكثر للحركة والاختلاط بالأفراد والمؤسسات وغيرها من الجهات التي تقوم بدعوتهم في بعض الأحيان لتبيان وجهة نظرها تجاه أحداث معينة.. ومما يساعد على ذلك انتشار مراكز التجسس تحت مسميات كثيرة مثل مراكز الأبحاث، والمكاتب الإعلامية، والملحقيات العسكرية والثقافية، ومعاهد تعليم اللغة، ووكلاء البيع، والمكاتب الاستثمارية، ومندوبو التسويق، وضمن مكاتب المنظمات الدولية والإقليمية، وهؤلاء الجواسيس على اختلاف اهتماماتهم ومشاربهم توكل لكل منهم مهمة محددة بعضها يتعلق بالإنتاج وبعضها يتعلق بالأسواق، وبعضها يتعلق بالتركيبة الديموجرافية والنفسية لهذا المجتمع أو ذاك، وبعضها يتعلق بدراسة عقلية الناس وطرق تفكيرهم، وبعضها يبحث عن الثغرات التي يمكنهم أن يلجوا منها إلى داخل كيان الدولة وهذا يسهل لهم إيجاد أرضية لما يريدون تمريره أو إحداثه من تغيير أو تخريب أو توجه أو غير ذلك مما تقتضيه مصالحهم القصيرة والبعيدة المدى. نعم لقد أصبح الدور الجديد لأجهزة المخابرات في كثير من دول العالم وخصوصاً المتقدمة منها هو تحقيق هدف محدد وهو الاستحواذ على مقدرات الآخرين بدون حرب قدر الامكان وبأيدي أبناء الوطن المستهدف، وهذا يتم من خلال تجنيد عملاء لهم مقابل شيك مفتوح، أو سهرة حمراء، أو ابتسامة صفراء، أو الجميع بين الترغيب والتهديد. ومن أهم أسلحة التجسس الاقتصادي زرع الفساد وتشجيع أصحاب السلوك الانتهازي، وتعميم القيم السلبية، واللا مبالاة، وإهدار المصلحة العامة، وعدم الولاء والانتماء، وايصال من يتصفون بتلك الصفات إلى مراكز اتخاذ القرار، والتأثير عليه، وهذا ما يجعل الأمور في كثير من الدول النامية تتراجع إلى الخلف بدلاً من أن تتقدم إلى الأمام.. ليس هذا فحسب بل، ان من مهام هؤلاء العملاء محاربة العناصر الشريفة والمخلصة والنزيهة والعمل بكل الوسائل على إبعادهم عن المواقع المؤثرة، والعمل على كتم أصواتهم وآرائهم واحباطهم ومضايقتهم وتصنيفهم على انهم من أعداء النظام مع أنهم في كثير من الأحيان من أخلص المخلصين وأكثرهم ولاءً. كل ذلك يعمل من أجل إيجاد بؤرة انشقاق تكفل لهم ممارسة الضغط على النظام. وحيث أن الوسائل والغايات التي تتبعها وكالات المخابرات المختلفة في عملية التجسس أو التدخل في شؤون الآخرين تكاد تكون متقاربة إلى حد ما في الإطار العام ومختلفة في التفاصيل لذلك فإنني سوف آخذ وكالة المخابرات الأمريكية C.I.A كنموذج على سبيل المثال لا الحصر. فوكالة المخابرات الأمريكية كان لديها قبل عام (1990) (25) ألف عنصر من الموظفين الذين يتقاضون أكثر من (3) مليارات دولار سنوياً. وبعد سقوط جدار برلين عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفيتي بعد ذلك، وجدت ال (CIA) نفسها بدون أهداف واضحة أو محددة. لذلك برز في ذلك الوقت سؤال وجيه وملح: وهو كيف ستتعامل تلك الوكالة مع هذا العدد الكبير من العاملين لديها والذين تخصصوا في التجسس العسكري والأمني وحياكة المؤامرات والقيام بالعمليات السرية خلف خطوط الأعداء خصوصاً بعد أن ترنح الخصم وسقط؟ لذلك انطلقت في عام 1995 عدة اقتراحات تنادي بتحجيم تلك الوكالة عن طريق خفض ميزانيتها وعدد موظفيها وكان على رأس المنادين بذلك البرفسور روجر هيلزمان. وقد كان البديل لذلك الاقتراح هو اضافة مهام جديدة لتلك الوكالة لم تكن تعطيها الأولوية من قبل، وبهذا الصدد فقد وجه الرئيس كلينتون تعليماته إلى وكالة المخابرات الأمريكية CIA لكي تستخدم مهارات موظفيها وعملائها والموارد المتاحة لتلك الوكالة لخدمة الاتجاهات الاقتصادية ومنها الثلاثة الآتية: 1) دعم الولاياتالمتحدة في مفاوضات جولة الأرغواي (الغات). 2) كشف أساليب الفساد التي تعطي للشركات الأجنبية ميزة على الشركات الأمريكية. 3) تحديد المشكلات المالية قبل أن تتحول إلى أزمات سياسية. كما أن وزير الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت وارن كرستوفر قد جعل المكتب الاقتصادي في وزارة الخارجية الأمريكية يحظى بالأولوية القصوى ولهذا زاد عدد ممثلي ذلك المكتب في السفارات الأمريكية في الخارج خصوصاً في الدول الصناعية المتقدمة. كما جاء انشاء المجلس الاقتصادي القومي في عهد الرئيس كلينتون داعماً لذلك التوجه وذلك لدعم التقارير التي تقدمها وكالة المخابرات الأمريكية بتقارير اضافية داعمة أو تحمل وجهة نظر أخرى. نعم لقد فرضت المستجدات العالمية ومعطياتها على وكالة المخابرات الأمريكية وغيرها من وكالات مخابرات الدول الأخرى الانخراط في التجسس الاقتصادي وبالتالي فإن تلك الوكالة بدأت تقدم خدماتها للشركات الخاصة بالاضافة الى مهمتها الأساسية وهي تقديم المعلومات الحساسة للدولة. وخير شاهد على ما تقدمه تلك الوكالة من خدمات للقطاع الخاص: الاتفاق الذي تم بين (CIA) والشركات الكبرى لصناعة السيارات مثل شركة فورد، وكرايسلر، وجينرال موترز، والذي بموجبه تقوم تلك الوكالة بتقديم معلومات سرية عن صناعة السيارات في الدول المختلفة لتلك الشركات. ومن ناحية أخرى فإن التجسس الاقتصادي لتلك الوكالة يشمل الحصول على معلومات دقيقة وموثقة عن شركات التنقيب عن النفط واستخراجه وتكريره، كما يشمل صناعة الطائرات، وكشف العطاءات التي تقدمها الشركات المنافسة للشركات الأمريكية كما أنه من الأهمية بمكان كبح جماح التجسس المضاد الذي تواجهه الولاياتالمتحدةالأمريكية من قبل وكالات المخابرات الخارجية وعملاء الشركات الخارجية وغيرهم ممن يتجسسون على آخر مستجدات التقنية والأسرار العسكرية والاقتصادية هناك، وهذا يعني الحد من سرقة براءات الاختراع الأمريكية والتي تكلف سرقتها الولاياتالمتحدة أكثر من مئة مليار دولار سنوياً.. أي أن تلك الوكالة لها مهمتان هجومية ودفاعية في نفس الوقت. وبناء على ما سبق فإن وكالات المخابرات الدولية قد فصل كل منها ثوباً جديداً يتلاءم مع معطيات الصراع الاقتصادي المحتدم بين الدول الفاعلة في الساحة العالمية. وبالطبع فإن التجسس الاقتصادي لا ينحصر في جمع المعلومات والاستفادة منها بل يتعداه إلى تخريب وتدمير اقتصاديات الخصوم إذا لزم الأمر. والتعاون بين وكالات المخابرات في الدول الصديقة والحليفة وارد إذا كان الهدف يخدم مصلحة الطرفين وخير مثال على ذلك التعاون الوثيق في كثير من المجالات بين المخابرات الأمريكية والإسرائيلية وخير شاهد على ذلك دورهما المشترك والفعال في لبنان والعراق وغيرهما من المواقع على الساحة العربية ويشمل ذلك الأمور الأمنية والسياسية والاقتصادية والعسكرية. ولا شك أن خلط الأوراق الذي يحدث على الساحة العربية لا يعدو أن يكون من صنع جهات ضليعة في التخطيط والتآمر وتحقيق مصلحة تلك الجهات التي وجدت ضالتها في الأمة العربية التي ضرب التخلف، والمحسوبية، والأنانية، والمصلحة الشخصية، والمظهرية، والجهل أطنابه في كل حدب وصوب من أركانها. ناهيك عن عدم ارتقاء قيادات المجتمع المدني إلى مستوى الحدث والبحث عن صيغة مشتركة تعزز التضامن وتخرج الأمة من دوامة التبعية وعدم الثقة بالنفس. ومن البديهيات أن الذي يعمل لتحقيق مصلحته على حساب مصلحة الآخرين لا يمكنه النجاح إلا من خلال المؤامرة، لذلك فإن المؤامرة موجودة في كل ركن وكل زاوية حتى وان صفق بعض المتثيقفين لنظرية دحض المؤامرة. نعم إن المؤامرة موجودة ولكن الملام ليس المتآمر الذي تسرح مخابراته وتمرح في كل زاوية وركن وتعمل الليل والنهار من أجل تجنيد عملاء لها لأن أولئك المتآمرون يعملون لما يحقق مصالحهم، لذلك فإن اللوم كل اللوم يقع على من لا يحصن داره ويقوم بدفع الضرر عن كيانه واقتصاده وشعبه بالوسائل والطرق العلمية، والحضارية، دون تشنج أو اعتباط، فاليوم وفي ظل المعطيات الدولية لابد من الحكمة المتمثلة في شعرة معاوية والشفافية وتحريك الدماء الراكدة والاستعانة بعقول ودماء أكثر حراكاً ودراية بمتطلبات العصر وحاجة الأمة وأكثر قدرة على المناورة والحوار والتفاوض مع الآخر سواء كان من الداخل أو الخارج. وفي الختام لابد أن أشير إلى أننا في المملكة نملك أكبر مقوم اقتصادي في العالم وهو البترول لذلك لابد أن يؤخذ بعين الاعتبار كل ما يدور حول ذلك المصدر الاقتصادي الهام من اهتمام أو آراء أو تطور، أو تآمر، أو تلميح، أو تصريح، وجميع ما له انعكاسات سلبية أو إيجابية عليه خصوصاً في ضوء الصراع الدولي على الموارد الاقتصادية واحتياطياتها والذي سوف يحتدم خلال السنوات القليلة القادمة. وخصوصاً أيضاً في ظل الوجود الإسرائيلي الذي يمثل التآمر بكل بشاعته وجبروته وأطماعه وجشعه ناهيك عن دور مخابراته في كل حدث غير مرغوب. والله المستعان. [email protected]