ما كادت تهدأ عاصفة تكفير من يبيح الاختلاط وإباحة دمه ، حتى هبت عاصفة أخرى أثارها " ما صرح به الداعية يوسف الأحمد لإحدى القنوات الفضائية ، من أن الاختلاط بين الجنسين في المسجد الحرام – محرم- ولابد من هدم المسجد وإعادة بنائه " ! توالت ردود الأفعال في الصحف العربية والمواقع الألكترونية من هذه الجرأة التي لا يشك عاقل في أنها أساءت إلى بلادنا قبل أن تسيء لصاحبها ، فهناك أناس يتربصون بنا ، ويعتقدون أن ما يصدر عن رجال الدين من فتاوى غير محسوبة يمثل وجهة نظر الدولة وموافقتها ، والفتاوى التي أوقعت الوطن في حرج كبير أكثر من أن تحصى ، ما بين فتوى تثير العجب وأخرى تتصادم وتعاليم الدين وثالثة تدعو لإثارة الضحك وكأننا في فيلم هزلي كما في فتوى ميكي ماوس التي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر بعير الفتوى !؟ لقد كان ذلك الرأي بهدم المسجد الحرام وإعادة بنائه موضع استنكار ؛ إذ تناقلته بعض الصحف ووسائل الإعلام العربية ، ومما جاء في بعضها على سبيل المثال :( سعيا لحل مشكلة الاختلاط داعية سعودي يقترح هدم المسجد الحرام وإعادة بنائه . صحيفة ألكترونية كويتية ) ، ( معركة الاختلاط مستمرة في السعودية ، الشيخ الأحمد يدعو إلى هدم المسجد الحرام وبنائه . منتدى عماني ) ، ( داعية سعودي يقترح هدم المسجد الحرام منعا للاختلاط ! موقع إخباري سوداني ) ، ( أبرهة الجديد يدعو لهدم المسجد الحرام تفادياً للاختلاط . منتدى قطري ) ، ( هذه الفتوى طوق نجاة لليهود من أجل هدم الأقصى المبارك . صحيفة ألكترونية أردنية ) ، ( وا إسلاماه ، اليهود يخططون لهدم المسجد الأقصى ، ورجل دين مسلم يدعو لهدم البيت الحرام تفاديا للاختلاط . موقع جزائري ) ، ( لماذا هذه الدعوة في هذا الوقت الذي تعد فيه إسرائيل العدة لهدم المسجد الأقصى ؟ إنه تزامن مثير ! موقع مغربي ) ، ( ألم يئن الأوان لتدويل الأماكن المقدسة في ظل تنامي الفتاوى المتطرفة من قبل بعض رجال الدين المتشددين ؟ صحيفة إسلامية ألكترونية ) . لماذا يحرص بعضهم على تشويه بلادنا إلى هذا الحد الذي لم يعد الصمت عليه مقنعا ، فبعد أن صدروا الإرهابيين ، واستقرّ الإرهاب على يدي كبيرهم ابن لادن ، وأصبح له برامج عمل وأدبيات ترسخ عقيدته ، أخذ بعضهم يطلق الآراء المتشددة من بلادنا فتستفز المسلمين في كل بقاع الأرض ، فالفتوى لم تعد شأنا خاصا بنا . وها نحن نعود ثانية إلى نوبة أخرى من نوبات عنف الخطاب التي تجتاح مجتمعنا من حين لآخر، هذه النوبات يتولاها أناس فطروا على حب التجييش والتحريض ، لا أحسب أنّ أولئك المجيشين ينطلقون من شعور ديني بقدر ما ينطلقون من رغبة كبيرة في التسلط وإثارة غبار الفتنة في الوطن باسم الدين ، ولا أحسبهم أيضا يقيمون وزنا للوطن ووحدته وأمنه فذلك آخر ما يفكرون فيه ، فما تكاد تخمد نار حتى يهبوا لإشعال أخرى ، مدفوعين برغبة جامحة وعزم أكيد في ألا يهدأ الوطن وألا تقوم لمشاريع التنوير والإصلاح قائمة ، فالوطن والحرص عليه آخر شيء يخطر في بالهم ، أقول هذا وأقصد به الخطاب المشبوه المفخخ بمفردات العنف والتحريض ، من قبل من يتولون إدارة مواخير متطرفة تسمي نفسها قنوات فضائية أو صحف ألكترونية ، أناس أخذوا على عاتقهم إشاعة خطاب ملغوم باسم حرية الرأي ! وفي الوقت الذي تُضيق فيه وزارة الإعلام هامش الحرية المنضبط أمام بعض الكتاب فلا تنشر الصحف بعض مقالاتهم التي يكتبونها دفاعا عن خطاب الاعتدال ، ودعما لنهج التنوير الذي يقوده الملك عبدالله ،ودحضا لفكر التطرف ، نجدها تغض الطرف عن تلك القنوات والمواقع ، التي بات خطابها التحريضي واضحا أيّما وضوح ، وصار بعض مذيعيها يدسون السم في الدسم ، لأنهم موقنون أنْ لا حجر على خطابهم كما هو الشأن في الصحف الرسمية ، أولم يقل أحدهم بملء فيه لأحد ضيوفه ممن يُحسبون على التيار التنويري :إنكم تراهنون على الزمن الذي هو ليس في صالحكم ! ولا أحسب أن أحدا يخفى عليه ذلك اللغم الثاوي في ثنايا قوله ! لماذا صار بعضهم يستسهل التكفير والتخوين ويعمل على الشحن والتحريض ما وسعه ذلك ؟ وكيف تحولنا من مجتمع هادئ مسالم إلى مجتمع يسوده عنف الخطاب ؟ مجتمع يتصارع بعض أفراده ويرمي بعضهم بعضاً بتهم تمجها الآداب العامة وتتعالى عليها الهمم الشامخة ويحذّر منها الدين ويتألم بسببها الوطن ! وكيف صار هذا الخطاب سمة تدل علينا وتميزنا عن باقي المجتمعات التي حولنا ؟ فأيّ قدوة طيبة وأيّ مثال رفيع وأيّ سنة حسنة نقدمها للأجيال القادمة وللصغار في بلادنا ؟ وكيف نجرؤ على محاسبة المراهقين الذين يتصارعون في المدارس والحواري حتى صار بعضهم يحتكم لصوت السلاح في إنهاء خلافاته ؟ كيف نردع هؤلاء وهم يرون ما يفعله بعض الكبار من فجر في الخصومة ، ولولا بقية من حياء وخوف من عقاب لأشهروا السلاح في وجوه مخالفيهم ؟ وفيما يتعلق بتحريم الاختلاط في البيت الحرام نتساءل لماذا سمح النبي -صلى الله عليه وسلم به- لنسائه ؟ وهل علماء بلادنا الذين يُستشهد بتحريمهم الاختلاط في البيت الحرام أشد غيرة على الدين وعلى نساء المسلمين من غيرة الرسول على نسائه وعلى دين الله ؟ وهل كان الله يسمح – لو كان ثمة فساد – فلا يُنزل على نبيه آية تمنع الاختلاط المحرم في بيته ؟! المثير للعجب هو الصمت الذي رافق الفتوى إن جاز تسميتها بذلك ، ولعلنا نقارن ذلك بالصخب الذي رافق رأي عضو هيئة مكة عن الاختلاط ، متسائلين ماذا كانوا سيفعلون لو صدر هذا الرأي ممن يُتهمون بالعلمانية أو يُصفون بالتيار الليبرالي ؟ أظن أنه ليس أسهل ولا أسرع من الحكم بكفره وسجنه وجلده لأنه تطاول على بيت الله ! ذلك أنه وُجد بيننا من يحتكر دين الله ، ويتحدث باسم الله ، ولا يسمح لغيره بالحديث حتى فيما عُلم من الدين بالضرورة ، ومن يجرؤ على ذلك سرعان ما توجه له التهم بالجهل والتجاوز فيما ليس من اختصاصه ، في خلط عجيب بين الفتوى وبين مناقشة أمر بُسط في كتب الحديث والفقه ، وأتيح لكل من لديه القدرة على التفكير والقراءة والتأمل ، لاسيما في جانب المعاملات والعبادات التي تربينا عليها منذ نعومة أظفارنا ، ويقيسون ذلك على الحديث في الطب والهندسة وسائر العلوم التي لا يجوز لغير المختصين الحديث فيها! وهو قياس لا يستقيم ؛ لأن تلك علوم تُدرس ، أما الإسلام فهو دين تربت عليه الأجيال في هذه البلاد وصار سلوكا ومنهجا وأسلوب حياة . وما زلنا نذكر أن بعضهم أقام الدنيا ولم يقعدها لدن توسعة المسعى إذ اعتبروه مخالفا للحدود التي استقرت له طوال التاريخ ، لكننا لم نسمع لهم صوتا ينكر على من يطالب بهدم بيت الله منعا من الاختلاط ، الذي بات يشكل لهم هاجسا وكأنه عمّ جميع مرافق الوطن ! لذا جاء صوت الشيخ عيسى الغيث القاضي بالمحكمة الجزائية بالرياض قويا صادعا شاقا سحب الصمت التي حفت بفتوى الهدم وكأنها لم تكن ، بقوله : لم أصدق هذا الكلام حينما بلغني ولم أكن أتوقع أن يصل الأمر إلى هذا الحد ، فهذا يعني أننا وصلنا إلى مراحل خطيرة لم يتوقعها أحد ولو من أكثر المتشائمين ، ولكن للأسف ثبت هذا بالمقطع الذي رأيته ، وعليه يجب أخذ موضوع الغلو والتنطع بكل جدية ، ولابد من اتخاذ الخطوات العملية العاجلة لحماية الدين والوطن من هذا الفكر الخطير... بعد هذه التطورات أصبح كل شيء واردا من هذه الفئة ، فمن تكفير بالجملة إلى دعوة لهدم المسجد الحرام ... أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ويوفق ولاة الأمر لاتخاذ القرارات الحاسمة ضد هؤلاء قبل استفحال الأمور... وأكد أن الدافع لمثل هذه الآراء هو الشبهة والشهوة والهوى والظلمات ... والغلو في الدين . وعن الحل لإيقاف - سيل - التشدد ، قال : لا موقف يمكن تنفيذه بنجاح سوى وقف هؤلاء عند حدهم وإحالتهم إلى محاضن لإعادة تربيتهم وتعليمهم من جديد وتوعيتهم وتوجيههم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم وكف البلاد والعباد من شرهم القولي والفعلي والتنظيري والتطبيقي، وعدم السكوت عنهم الذي لا يعد - بعد وصول هؤلاء لهذه المراحل - من الحكمة والحلم في شيء . الوطن 19 مارس 2010 . نعم ليس من الحكمة السكوت على فعلهم ، بل لابدّ من وضع حد لهذه الآراء المتشددة التي توقع بلادنا في حرج كبير ، ولابد من التبرؤ رسميا من هذا الرأي الذي يحسب على بلادنا التي اكتوت طويلا بنار الآراء المتشددة والمتطرفة ؛ فذلك يمس عقيدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وعدم التعامل معه بما يستحق يعطي الحاقدين علينا والمتربصين بنا فرصة للنيل منّا . أما القنوات التي تستحوذ على نسب عالية من المشاهدين وتستغل السذج والبسطاء منهم لتشيع خطابها المتطرف والمحرض بينهم ، وتروج للعنف وتكفر وتخوّن فيجب أن يوضع حدّ لخطابها الذي لا يخدم وحدة الوطن واستقراره ! فلقد صارت تلك القنوات أبواقا تشيع الفتنة وفي الوقت الذي تتهم فيه بعض المواطنين في دينهم وأخلاقهم ووطنيتهم ، لم نسمع يوما إدانة منها للإرهابيين والقتلة ، بل إنها لم تتطرق يوما لمناقشة صنيع المارق الأكبر ابن لادن ومجرمي القاعدة .