أن تسمع عن معاناة الناس شيء، وأن تقف عليها شيء آخر، وأن ترى الصورة أو المشهد بمظهره العام وتعتاد رؤيته ثم تستغرب من تفويتك لتفاصيله الدقيقة وواقعه الذي يميزه دون أن تستشعره، فذلك أمر محتمل. قضية الطبيبة السعودية التي لجأت للصحافة تستغيث بعد أن أعيتها الحيل والتي كتبتُ عنها منذ أسبوعين، قد أقضّت مضجع كثيرين وحفزت آخرين على التحرك للمساعدة وفي الوقت نفسه أثارت تساؤلات عدة وأظهرت حقائق وجوانب يجهلها البعض منها، ويعايشها البعض الآخر دون أن يدرك تداعياتها وآلامها. من أهم الجوانب التي أظهرتها قضية الطبيبة السعودية التي ابتلاها الله بمرض السرطان والذي يعاني منه آخرون ولم ينتبه لهم أحد، هي احتياجات المرضى الملحة ومتطلبات العلاج التي تستنزف طاقات المريض ودخله. الطبيبة السعودية حكت لي وبقلب يملؤه الألم معاناتها طوال رحلة علاجها والتي تعدت الأربع سنوات، والتي كانت تضطرها للسفر من محل إقامتها إلى مدينة الرياض لتلقي العلاج اللازم، والذي يتطلب توفر سكن ملائم وصحي لها طوال فترات العلاج. نعم هناك جمعيات تسعى جاهدة لمساعدة المرضى أثناء تلقيهم للعلاج بتوفير سكن قريب من المستشفى الذي يتلقون العلاج فيه، لكن الاحتياج أكثر مما هو متوفر، ووعي الناس وأهل الخير بمدى حاجة هؤلاء المرضى الذين يفدون من المناطق الأخرى لا يزال محدودا وغير فاعل. وحدهم الأذكياء النابهون من المستثمرين الذين استشعروا هذه الحاجة واستثمروها كما يجب في شقق وغرف للسكن قريبة من المستشفيات إيجارها يستنزف أموال المرضى اليائسين وأموال أقاربهم الآملين في الشفاء! مرضى الأمراض المزمنة والمستعصية أو الخبيثة يصرفون أعز مالهم، ويستدينون في رحلاتهم العلاجية الداخلية، ونحن من حولهم نراهم، نسمع عنهم، لكن لا نعي حقيقة معاناتهم ولا مدى احتياجهم وتعبهم. ولأن هذه الفئة من المرضى مناعتهم ضعيفة وطاقاتهم مستنزفة وهممهم خائرة ومعنوياتهم متذبذبة ، هم بأمس الحاجة لسكن صحي مريح وقريب يقلل من تنقلاتهم ومخاطر انتكاس أوضاعهم الصحية أو ترديها. فلماذا نشيح بأنظارنا عنهم ونلتفت لغيرهم بمد يد العون، ونغفل هذه الفئة وما أكثرها، وهم الأحوج وإن تعززوا، وحرمتهم عفتهم من السؤال بالرغم من الحاجة ؟ لماذا لا نوجه بعضاً من هباتنا وأعمالنا الخيرية لهم ؟ لماذا لا نوقف المساكن أو حتى نسعى لتوفيرها لهم بأسعار مناسبة لا ترهق ميزانياتهم المتعبة ؟ ما ذكرته لي الطبيبة السعودية عن ما تعانيه وتنزفه من مال في سكن بسيط لا يرتقي في خدماته لما يحتاجه أي مريض في فترة العلاج يجعلنا نتساءل أين أهل الخير عن هؤلاء ؟ مرضى المناطق الأخرى الذين يفدون للمستشفيات الكبرى طلبا للعلاج هم الأحق بالمساعدة والدعم، لأننا معهم وبهم نمثل الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له باقي الأعضاء بالحمى والسهر. فلماذا لا نستشعر معاناتهم ونهبهم جزءاً مما ننفقه في أوجه الخير الأخرى ؟