يستحق هذا البحث أن يوضع في " برواز " ويوزع في بيت كل طالب علم شرعي ، وكل من امتهن لنفسه مهنة " الإفتاء " ، هاتفياً وكتابياً وفضائياً ، ممن جعلوا الإفتاء في أيامنا هذه مهنة "منخفضة الجدار" ! صاحب البحث الذي استوقفتني تفاصيله هو الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ ، وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ، ويحمل عنوان "الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء" . يخبرنا البحث أن هناك فرقا جوهريا بين الإفتاء والقضاء ، في وقت يعتقد البعض فيه أن القضاء هو نوع من أنواع الفتوى ، لكن البحث يفصّل لنا أن القضاء يكون بين متخاصمين في إلزام أحدهما بأداء الحق لصاحبه ، أي أن القاضي"يُلزم" بتنفيذ الحكم بما فوضه إليه ولي الأمر ، أما المفتي فيبيّن الحكم الشرعي " من دون إلزام " ، أي ليس له أن "يُلزم" المستفتي بتنفيذ العمل بالفتوى ، وللمستفتي الحق في تنفيذ الفتوى أو عدم العمل بها . الأمر الآخر في البحث ، الذي لا يقل أهمية ، هو مطالبته لطلبة العلم والعلماء بتبيان خطر الفتوى ، وعدم التسرع بإطلاقها . والمثال الواقعي الذي يورده البحث حول هذه النقطة ، هو ما كان يفعله مفتي عام المملكة "سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم" يرحمه الله ، فمما كان يروى عنه أنه قد يؤخر الفتوى شهراً حتى ينظر ويستخير ،"أين مفتو الفضائيات من هذا ؟" ، وكان يتريث في بعض المسائل حتى يجيب فيها ، فيمكث في السطر أو السطرين دقائق ليملي مخافة أن يكون في لفظ منها زيادة أو نقص . وقيل عنه أيضاً إنه " لا يفتي وهو واقف إلا ما ندر ، ولا يفتي وهو في السيارة " ، وإنما كان إذا أراد أن يفتي " تربّع، واستحضر ذهنه ، واستجمع قواه ، وطلب من السائل أن يلقي عليه المسألة فعند ذلك يفتي ". رحمة الله عليه .. كم أتساءل بفضول كيف ستكون حاله ، وحال السلف الصالح قبله ، لو كانت الفتوى التي سينطقونها تتضمن التكفير واستباحة هدر الدماء ، أو حرق الممتلكات ، أو ترويع الآمنين ، أو تخريب بلد ، أو نسف أخلاقيات المجتمعات الإسلامية ، وغير الإسلامية ، "كرضاعة الكبار ، وإجازة أنواع الزواجات ذات التسميات الألعبانية المتفننة في تضييع حقوق النساء .. وغيرها كثير" ؟. كم الفرق كبيراً بين هذه الفتاوى " العجيبة " ، وبين فتوى الشيخ الباكستاني المولد " الدكتور محمد طاهر القادري " ، التي تحرّم الإرهاب في ست مائة صفحة ، والتي قال عنها الإعلام البريطاني والغربي – هذا الأسبوع - بأنها " أشمل دحض فقهي للإرهاب في الإسلام ". هذا الشيخ أفتى أنه لا يمكن إيجاد أي أعذار للإرهابيين، معتبراً أن «النيات الحسنة لا تحوّل الباطل حقاً».. وأن الإسلام «دين سلام، يشجع الجمال والطيبة والخير، ويرفض كل أنواع الشر والاحتراب» . وستترجم فتواه إلى الإنكليزية خلال أيام ، وفق صحيفة «ديلي ميل» ، وسيبث مؤتمره الصحفي ، الذي نظمه بشأن فتواه ، على مواقع في شبكة الانترنت لتعميم الفائدة . هناك فتوى يشحذ العالَم حيالها سخريته وسلاحه .. وهناك فتوى يستقبلها بعقله ، وبسببها يفتح قلبه وفكره للإسلام .. من الذي يقول لنا بأي نوع من الفتاوى نجحت فتوحاتنا حتى سُدنا أغلب بقاع الكرة الأرضية ؟ .. وأي نوع من الفتاوى نحتاج الآن .