في أوروبا لم تنشأ الحضارة والتقدم العلمي بدون صدام بين إرادة جامدة وأخرى متوهجة، وقد شهدنا كيف قيدوا علماء الفلك والكيمياء والفلاسفة إلى السجون والمقاصل. ومع بدء عصر النهضة الذي اعتمد الفلسفة العقلية على حساب الميتافيزيقا، استطاع الأوروبيون حسم أمورهم مع الكنيسة من خلال اعتماد تجربة عملية تفصل بين العقل ونقيضه، وفي هذا السياق استطاعت آوروبا تأسيس حضارة متطورة، قلدها وطورها العديد من شعوب العالم.. أمريكا بدأت من حيث انتهت أوروبا؛ أي مرت بعوائق إلا أنها لم تكن محبطة، فهي بعد الحرب الأهلية أنشأت الدستور، وانكفأت ذاتياً لتخلق دولة في قارة استطاعت في عقود أن تصل وتتعدى قوة أوروبا العلمية والتقنية، بل كانت المنقذ من حربين كونيتين، أعيد -بعدها- بناؤها من جديد من خلال مشروعها الشهير بمشروع «مارشال».. آسيا - وخاصة اليابان - ثم الكواكب التي سارت في مجرتها الكبيرة دمجت الموروث الوطني بالعلوم، لكن الجدية وتقديس العمل، والدخول في تحد مع الغرب، جعل نهضتها الأسرع رغم فقدانها لكثير من البنى التحتية والمعامل والجامعات، لكنها استطاعت هضم العلوم والبدء في تقليد الصناعات بجودة ضعيفة إلى أن وصلت إلى منتج بتقنيات وجودة فاقت بها أساتذتها في الغرب كله، والسر أن التطور لم يصادف عوائق وكوابح ترفض المعاصرة باعتبارها غزواً ثقافياً واستعماراً اقتصادياً، ثم إن الاهتمام بالعامل البشري كطاقة متجددة، وصل إلى نقاط القوة مع غرمائها.. فالشعوب التي لديها الاستعداد والاستجابة، والقدرة على الابتكار والتطبيق لمختلف العلوم وتحويلها إلى منتج ينافس على السوق العالمي حتى داخل البلدان المتقدمة، جعلت آسيا الفاتح الجديد والناقل للقوة من القارتين الأمريكية، والأوروبية إليها، وقد دفع التحدي الدولتين الأكبر الصين والهند إلى أن تحسما أمرهما مع التخلف إلى الصعود كقوتين عالميتين بشروط القوى العظمى، وتستغرب كيف أن اللغة في اليابان والصين وكوريا الجنوبية، وهي المتخلفة عن اللغات الأوروبية -بوصفها لغات المصطلحات العلمية- أن تحول هذه اللغات إلى مكون حضاري جدد في القواميس وطور بالمفردات، وترجم كل ما هو علمي لها بما في ذلك لغة الحواسيب العملاقة.. هنا نسأل هل المشكل ثقافي، أم بيئي، أم إنساني، أم نظامي بين من لديهم قابلية التقدم، ومن يتضاعف في بنيتهم التخلف،، ثم كيف تصل بلدان متعددة الأعراق والثقافات إلى قوة في منتجها الفلسفي وبنائها العلمي بمزيج متماسك، في حين أن هناك شعوباً تنتمي إلى جغرافيا وتراث ولغة واحدة، لا تملك أن تعيش خيار الحياة بشروطها الانتقالية من الجمود إلى التطور لتقاسم تلك الشعوب نفس القوة وإرادة العمل ؟ عندما نتوجه بهذه الأسئلة إلى الأمة العربية، لا نجد الإجابات الدقيقة لأن الأزمة عقلية ونفسية، لا دخل فيها للموقع ولا سبب ، وإلا كيف كانت مصدر الحضارات الأولى! لذلك لا بد من صدامات حضارية تعيد هذا الإنسان إلى مساره الطبيعي ..