في البدء ثمة حقيقة أساسية ينبغي بيانها والانطلاق منها ، وهي ضرورة التفريق بين الدين كمجموعة من المبادئ والقيم الخالدة ، التي تنسجم وفطرة الإنسان ونواميس الكون والوجود.. وبين الدين كما هو مُعاش وممارس .. وبالتالي قد تكون هذه الممارسة قريبة من تلك المبادئ أو بعيدة .. وعليه ومن خلال الإطار النظري الآنف الذكر ، نجد أن الدين الإسلامي بالمعنى المعياري ، لا يقف حجر عثرة تجاه الإبداع البشري بكل صوره وأشكاله وأجناسه ، وإن ما تعانيه ساحاتنا العربية والإسلامية على هذا الصعيد ، ليس وليد قيم الدين وإنما تدخلت عوامل سياسية وثقافية واجتماعية لوجوده ، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نعتبر قيم الدين هي المسؤولة عن هذا الواقع .. فالدين الإسلامي أطلق للإنسان الحرية التامة في التأمل في الموجودات والوصول إلى حقائق الكون والحياة من خلال إعمال العقل والاجتهاد والتفكير والإبداع .. وإننا مع الإبداع البشري الذي يثري حياتنا معرفة وحيوية وجمالا .. وفي ضوء ذلك ينبغي أن لا تتحرك إبداعات المبدعين في دائرة التكفير وعدمه ، بل تكون خاضعة للبحث في سلامة التأويل من حيث المنهج العلمي في فهم النص وعدمه ، عله يكون أساس مناقشة المفردات والمعطيات التي يقدمها كل فريق أمام الآخر .. وربما يقودنا الحوار الموضوعي إلى حقائق جديدة وقناعات جديدة متميزة كما أننا ندعو إلى ذلك لا من موقع العقدة من التجديد والإبداع والتنوير بل من موقع الرغبة في أن تكون لنا أصالتنا الثقافية ومرجعيتنا الحضارية .. فشرارة الإبداع تتقد حينما تنداح تلك الأسئلة من المثقف التي تضعه وتضعنا أمام حقائق الحياة ومقوماتها ..ولا فرق في ذلك بين الإبداع الذي يقصده أفلاطون (التعبير عن عالم المثل) أو ما قصده أرسطو من أنه (محاكاة الطبيعة ثم التسامي عليها) أو ما قصده " كانت " من أن الإبداع (طريقة جمالية في إظهار الشيء) .. وحسب كل هذه المعاني والمصطلحات لابد من توفر علاقة حميمة بين المثقف والواقع لا للخضوع له ، وإنما لمعرفة حقائقه والتفاعل الخلاق معها لصناعة النص المبدع .. فالقاعدة الاجتماعية لإبداع المثقف هي أن يكون في حالة حركة وصيرورة مع مجتمعه ومحيطه الإنساني ، وبعيدا عن حالات الجمود والكسل الفكري .. حينذاك يبدأ المثقف بإنتاج عطاءاته المبدعة .. وبالتالي فإن إبداع المثقف في محيطنا مرهون بالنقاط التالية : - في مدى علاقته بالثقافة: فالمثقف الذي يعتبر الثقافة وظيفة له، لا يرتبط معها بأية روابط حب وتفاعل وتفان من أجل العلم والمعرفة ..وأن هذا المثقف سيبقى يكرر ما ينتجه الغير ولن يتجاوز سقف العطاءات الثقافية المتوفرة في الساحة .. بينما المثقف الذي يرقى في علاقته بالثقافة إلى مستوى الحب والعطاء والتفاعل ، فإن هذا المثقف مع مرور الزمن سيتمكن من الإبداع في حقله المعرفي والثقافي .. - في مدى علاقته بالتحديات والتطورات التي تجري في ساحة الأمة العربية والإسلامية : فالمثقف الذي يصنع لنفسه حاجزا يحول دون التفاعل وهذه القضايا (التحديات والتطورات) لن يباشر أي دور مبدع في حياته العلمية والثقافية ، لأنه منع عن نفسه منبعا من منابع الإبداع ، ألا وهو التحديات والتطورات ، فهي بمثابة الحافز الذي يستفز كل القوى والطاقات الذهنية والفكرية ،للإتيان بالجديد بما يناسب تلك التحديات والتطورات .. لأن بداية الثقافة والمعرفة مساءلة ، ومن ثم مشاركة في توليد معلوم من قيم الثقافة وخطوطها الكبرى .. إن الحرية قيمة مقدسة لدى كل الديانات السماوية والنظريات الإنسانية ، فلا نحولها ببعض التصرفات وكأنها تقف بالضد من خيارات الأمة الحضارية ..إننا في العالمين العربي والإسلامي ، بحاجة إلى تلك الجهود الفكرية والثقافية والأدبية ، التي تؤصل قيم الحرية وحقوق الإنسان والتعددية ، وهذا لا يتأتى إلا بنشاط فكري نوعي ومتواصل ، لا يأبه بالمعوقات ، ولكنه في ذات الوقت ، لا يدخل المجتمع في معارك وهمية أو جزئية أو لا تؤدي إلى الوصول إلى الأهداف العليا .. إننا مع خيار الحرية للأكاديمي والباحث والمثقف والأديب والمفكر والصحافي ، ولكننا في ذات الوقت نرى أن طائفة من الأدباء والمثقفين لا تحسن التعامل مع هذه القيمة ،ولا تجيد التعامل الإيجابي مع هذا الخيار .. وما نطالب به هو أن نستفيد من قيمة الحرية في التنمية وبناء التقدم الاقتصادي وتطوير الواقع الاجتماعي وبناء حياة ثقافية حية ومتميزة وفاعلة على كل الصعد والمستويات .. إننا مع الحرية بمضامينها السياسية والمدنية ، وأشكالها الفردية والمؤسساتية .. فنقف مع حرية التعبير والرأي ضد كل أشكال الاستبداد وسياسة تكميم الأفواه ، ولكننا في الوقت ذاته ضد التجديف في الدين ومعاداته ومحاربة قيمه ومقدساته .. إننا مع الحرية لكل قوى المجتمع فرادى وجماعات ، ولكننا في ذات الوقت وبدون تناقض أو مقايضة مع احترام قيم الدين ومقدساته ورموزه .. فالمطلوب دائما أن نمارس حريتنا وحقوقنا ، دون التجديف في الدين .. ويخطئ من يتصور أن لا حرية مع احترام قيم الدين ومقدساته .. فكما أن الحرية قيمة بذاتها كذلك هو الدين ، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال معاداته .. فإهانة المقدسات ، لا تقود إلى تكريس قيم التنوير في المجتمع ، وإنما تزيد من أوار الاضطرابات ، وتفاقم العصبيات وتدخل الجميع في نفق مظلم مليء بالتهم والتخوين والتكفير .. وجماع القول : إنه من وهج الحياة وتفاعل المثقف معها ، تتولد حالات الإبداع في حياة المثقف .. فحيوية حضور المثقف في العصر ، هي القاعدة المعرفية والمادية لعملية الإبداع في مستوياتها المعرفية المختلفة ..