لستُ من المتشائمين أبدا ولكن عند الحديث عن أزمات الشرق الأوسط أجد نفسي مضطرا للتشاؤم ؛ فأزمات الشرق الأوسط تشكلت بطريقة غريبة ولكن العامل المشترك بينها هو في وجود -الأيديولوجيا- خلفها بغض النظر عن نوعها أو شكلها أو اتجاهها. لم تنجح المبادئ التي اعتنقها الشرق الأوسط على مر العقود الماضية بأن تطرح مشروعا تنمويا محددا يصمد لصالح الإنسان وليس لصالح إنسان واحد أو مجموعة، فالأجيال في عالمنا العربي وخاصة الشرق اوسطية تنطبق عليها الفكرة القائلة (كلما خرجت أمة...الخ). الأجيال في عالمنا العربي خصوصا لا تجد تقديرا لسابقيها سوى تسميتهم أجيال المبادئ المهزومة كما يقول الشاعر الفلسطيني -عزالدين المناصرة- في لقاء له ببرنامج روافد على قناة العربية، وكل جيل يأتي ينعت سابقه بهذه الصفة. لم يبق لأجيالنا من ماضيها سوى ما كتبناه عن أنفسنا من بطولات كتبناها في خيالاتنا وعلى ورقنا الذي اشتريناه من المكتبات بينما لم يكن على صفحات التاريخ من حقيقته سوى أقلامنا التي نملكها وتكتب بها أصابعنا نحن وليس غيرنا لذلك لا تصدقنا الأجيال بما نقول عن ماضينا. التاريخ الذي يكتب نفسه هو أصدق تاريخ تعرفه البشرية ويبقى فيها وتحفره الذاكرة ويخلد كما خلدت الأهرامات وأبو الهول، أما التاريخ الذي نكتبه نحن فهو ذاتنا وبطولاتنا التي نصفها نحن بطريقتنا من وجهة نظرنا فقط. لذلك ومهما كنا بارعين أو موضوعيين في كتابتها فسوف لن تختفي منها أبدا رائحة أفكارنا ولون أقلامنا وفحيح أنفاسنا التي تلتقط الصور من خيالنا المحصور في زاوية نملكها نحن فقط ولا يشاركنا في تلك اللحظة سوى ذاتنا الوحيدة. لم تعد الأجيال في الشرق الأوسط سوى كرة ثلج تتدحرج عبر الزمن ، كل أمة تخنقها التي تأتي بعدها بشيء من الالتفاف عليها وحولها بشكل دائري لا يسمح بالخروج فلا تنفك منها، ولكن دون نهاية ودون جبل تاريخي أو حضارة فكرية ترتطم به كرة التاريخ والزمن كي يحطم هذه الكرة ويعيد نثرها من جديد فتخرج الأجيال من رحم التاريخ المتراكم والمتدحرج عبر الزمن لترى أين حلّ بها المقام بعد تلك السنوات؟ لماذا نحن بهذه الصورة ، لماذا نحن مسلسل هزائم متتابعة؟ هكذا سألت نفسي من قبل وهكذا سألني احد أبنائي.. لم أجد إجابة تخترق الحقيقة ولكني وجدت قصة ترويها الأجيال التي تسمي كل من سبقها بجيل المبادئ المهزومة، فلم يكتب لنا التاريخ مبادئ منتصرة نفخر بها أبدا حتى وإن كنا نعتقد أنها منتصرة ونحن على منابرنا وفي أشعارنا وثقافتنا. الانتصار ليس فرحة..! الانتصار الذي لا يغير الشعوب هو انتصار لفظي، الانتصار الذي لا يحول مسار المجتمعات ويعيد صناعتها ليس انتصارا...! الانتصار الذي يحتاج الأناشيد والخطب ليس انتصارا، الانتصار هو صناعة الإنسان من جديد وبطرق مختلفة. في الربع الأول من القرن الماضي تشكلت الايديولوجيا الدينية بطرق مختلفة بمساهمة أجزم أن سببها جماعة الإخوان المسلمين حيث ازدحم عالمنا بأفكار متباينة ومتضادة فجُلبت إلى عالمنا أيديولوجيات يسارية وقومية وفكرية وخلطات فيها كل شيء إلا شيئاً واحداً ألا وهو بناء الإنسان. لقد أصبح الشرق الأوسط مصنعا غير مرخص ومختبرا سياسيا وفكريا على أسس غير علمية لدمج الأفكار وخلط المبادئ وفق تركيبة كيميائية وفيزيائية غير قابلة للتطبيق أو الوجود. مختبرات الشرق الأوسط لبناء الإنسان والأوطان لا تقوم ولم تقم على أساس منهجية علمية معترف بها والدليل ما وصلت إليه حالها بين شعوب العالم وأصبحت النظريات الخيالية والأسماء الحزبية هي أعظم ما يميزنا، فأصبح الشرق الأوسط بلا مقادير تاريخية أو جغرافية ، وأصبحت الدول ليست بعيدة عن السحرة والعرافين والأطباء الشعبيين والقراء والمشعوذين الذين يعدون بكل شيء ولكنهم لا يستطيعون تحقيق أي شيء فلماذا هذا يا ترى...؟ هذا السؤال يحرق الأفئدة لدى الأجيال القادمة لأن جيل المبادئ المهزومة كلمة اخترقت كل التاريخ أمامهم لتصنع أسئلة مهمة نحو مستقبل هذا الجزء المهم من العالم حيث الثروات في باطن الأرض ولكنها ليست في عقول من يعيشون عليها أو أزيلت بالقوة إلا من رحم ربي وهم قلة حملهم موج الحياة إلى تلك الدول التي أعطتهم مساحات يستطيعون العيش فيها مبدعين حالمين لا تقرّبهم صلة رحم ولا قرابة إنما تعرّف بهم إبداعاتهم وعقولهم لأنهم ثروة عقلية وليس غير ذلك. عدونا في الشرق الأوسط هو – الأيديولوجيات - التي تسرح وتمرح بيننا .. صدقوني ليس لنا عدو أكثر من تلك – الأيديولوجيات - لأن بقية أعدائنا هم بسببها فقد زرعت بيننا فإذا زال السبب انتفت المسببات. نحن نقيم علاقة غير طبيعية مع – الأيديولوجيات - ولا نؤمن بأنها سبب تخلفنا، نخرج من واحدة لنغرق في الأخرى وكأننا محكوم علينا بها بينما العالم المتقدم من حولنا أعلن عداءه للايديولوجيا منذ مئات السنين ثم آمن بالعقول وحدها فلم تعد الأفكار مفروضة على الجميع بنفس القدر وبنفس الطريقة. في منهجنا يموت الإنسان وحده ويحاسب وحده ، ويقبر وحده وتُكتب عليه صحيفة أعماله وحده ، ويتبرأ من أقرب الناس إليه في موقف وحده ومع كل هذا التقدير الفكري لاعتبارات الإنسانية والحرية الفردية وجعل الفرد هو معيار الفهم والإدراك، إلا أن مجتمعاتنا تسكنها ايديولوجيات تريدنا أن نموت جماعات ونقبر جماعات ونتحدث جماعات ونتشكل بعقل واحد ، ونكتب فكرنا كمجموعات ونمارس سلوكا جماعيا يفرض علينا جميعا دون مراعاة لفروقنا الفردية ، ونحاسب جماعات بينما الايديولوجيات التي تصنع بيننا يتم صناعتها من خلال فرد يفرضها علينا جميعا، هذا سؤال جديد فلماذا نختلف بل لنقل إننا نخالف أعظم منهجيات حياتنا الفكرية. أيديولوجيا الإسلام السياسي تنشر فكرة الإخوان المسلمين وكل الحركات الإسلامية تعنون بكلمة جماعة فما السبب وراء انشقاقنا داخل الإسلام وجماعته ، ولماذا تلك الرغبة العارمة بتفتيت الحياة، فهل المسلمون بحاجة إلى إخوان وجماعات منشقة داخله أم هم بحاجة إلى الإسلام ذاته..؟ في الأيديولوجيات السياسية تبرز كلمات مثل الأخ والرفيق وغيرهما لتعلن أن هذه الأيديولوجيات تصنعها المصالح الذاتية وليس الاشتراك في الأفكار، أزمة أجيالنا معنا هي أزمة رؤية لهذه الأجيال. إذا لم نستطع أن نرى تلك الأجيال فردا فردا وعقلا عقلا كإنسان مستقل بذاته يفكر وله حق التفكير ويحلم لذاته ، ويدرك أن مشاركته مع الآخرين ليست مبنية على تحقيق مصالح فردية إنما هي مبنية على بناء مجتمعي متكامل يعيش فيه الإنسان مستقلا في ذاته مندمجا في حياته مع الآخرين ..إذا لم نوفر تلك الرؤية فل ننتظر ماذا ستفعل بنا وبنفسها تلك الأجيال؟ سوف تتطرف إلى أقصى درجة ممكنة وسوف تنحل إلى أقصى درجة ممكنة ، وسوف تغرق في الجهل إلى أقصى درجة ممكنة وفي النهاية سوف تصبح أجيالا بلا قيمة تحقق ذاتها وهناك مكمن الخطر. الأيديولوجيات - هي اكبر مصيبة عرفناها وهي اكبر مصيبة لن نشفى منها بسهولة لأنها تسير نحو أهدافها بطريقة مخيفة إنها تريد أن تستنسخ الإنسان بطريقة مماثلة ، تريد بشرا وكأنهم صور من بعضهم ونسخ متكررة وهذه أزمة التاريخ الذي نملكه بكل مجالاته وفروعه. عندما أتى إلينا الإسلام صوّره لنا البعض وكأنه يطلب من المسلمين أن يتخلوا عن طبيعتهم البشرية ليتحولوا إلى طبيعة عدائية متشددة لا تقيم للحياة قيمة ولا معنى. الخطر الذي نواجهه أن كل أيديولوجياتنا بكل اتجاهاتها الفكرية صنعها أفراد يرغبون باستنساخنا صورا من عقولهم وهنا كانت الأزمة وسوف تظل إلى أن ترتطم تلك الكرة الثلجية من تاريخنا بما يجعلها تتفتت وتكشف عن خفاياها لتلد الحياة من جديد.