أكمل اليوم ما بدأته في مقال الأسبوع الماضي عن لغة اللا حوار في واقع الخطاب الثقافي السعودي الراهن من خلال مداخلات المشاركين والمشاركات فيه ، ونظراً لتشعب هذا المحور وهو المشهد الراهن للخطاب الثقافي السعودي وكثرة مفاصله ، فسأكتفي به لأكشف من خلاله حقيقة خطابنا الراهن التي ستكون إجابة عما طرحته في مطلع الجزء الأول من المقال . أبدأ بالتساؤل عن حقيقة خطابنا الثقافي وعلام بُني ؟ وسرعان ما أجد الإجابة في مداخلة إحدى المشاركات بقولها : (خطابنا الثقافي بني في الأساس على كمية من الكذب بحجة درء المفاسد ، لكن هل اختفى الفساد ؟ بل لم يختف ِ وظل يتزايد بشكل أو بآخر ، والخوف من هذا الشكل الآخر الذي مورس وما زال تحت غطاء ديني واجتماعي) . ثم تساءلتْ (كيف نقنع المجتمع بأن خطابنا الثقافي سيكون صادقا ؟ كيف نقنعه بذلك وقد كانت أولى خطوات الصدق ودفع التناقض الذي عشناه لسنوات قد أثارت شغباً فكريا ًوجسدياً مثلما حدث في جامعة اليمامة ومعرض الكتاب وبعض الأندية الأدبية ؟ لا أطالب أن نتفق لكن أن يكون لخلافاتنا نتيجة إيجابية يستفيد منها المجتمع ، والوطن الذي نجتمع من أجله) . من الطبيعي أن يتسم خطاب كهذا بكثير من المآزق التي لم تقتصر على التعميم أو الاصطفاف أو التصنيف أو الاستعداء فحسب بل تتمثل أيضا – حسب أحد المتداخلين – في (أن ثمة من أراد أن يلزمنا بما انتهى إليه تفكيره من تطرف ؛ فالمأزق الحقيقي هو سقوط المؤسسات واختراقها من قبل اتجاهات متطرفة ، المأزق الحقيقي أنهم أرادوا أن يصنعوا من تطرفهم قانوناً يلزموننا به ، ليست المشكلة في أن يتطرفوا في تفكيرهم ، ولا أن نتطرف في تفكيرنا ، المشكلة الحقيقية أن نجعل هذا التطرف قانوناً وأن نحيله بسلطة الشارع أو سلطة المؤسسة إلى حكم ملزم) ! إن خطاباً يعاني مآزق كتلك لابدّ أنه منشغل بقضايا جانبية وهامشية حسب أجندته الخاصة وربما أجندات أخرَ مفروضة عليه ، ولذا فقد كان الوطن هو الغائب الوحيد عن الحوار عندما حضر كل شيء ، وتحديداً في هذا المحور فلم نشعر بوجوده ولا بنبضه ولا بصوته ؛ إذ غاب أو غُيب تحت ركام مفردات من نحو نحن وهم والأقلية والأكثرية والاختطاف والاستلاب والهيمنة والتحريض ، كما خفت صوتُه تحت وطأة الشحن والتعبئة والهجوم والهجوم المضاد ! وهذا الغياب ليس إلا نتيجة حتمية لتغييبه في الخطاب الثقافي السائد في المجتمع منذ عقود حيث تراجع لحساب مفاهيم وإيديولوجيات لا علاقة للوطن بها على الإطلاق ، وقد تنبه بعض المتداخلين لهذا فقال: (أتساءل هل لدينا خطاب ثقافي ، أم لدينا أجندات شخصية ؟ منذ بداية هذه الجلسة ونحن نعيش مأزق التصنيف والاصطفاف والاستعداء ، هذا هو خطابنا ! وكلّ يعتقد أنه يملك حق تمثيل هذا الوطن فيما يتبناه من أفكار ، ... كما أن مأزق التعميم هو كارثة علينا جميعا عندما نضع الجميع في خانة واحدة .) ! ثم التقطت إحدى المتداخلات هذا الخيط الذي فصل المتحاورين عن الهاجس الأكبر الذي كان ينبغي أن يكون شاغل الجميع ، وألا يغيب عن أذهانهم تحت وطأة الشعور بالغضب والانتصار للنفس أو للجماعة أو للموقف ، أو لاستغلال الفرصة التي قد لا تتاح فيما بعد لتصفية الحسابات الآجلة والعاجلة معا ، فقالت : (منذ أن بدأنا ونحن نردد نحن والآخر ، وهم وأنتم ، بدأنا اللاحوار وكأننا بذلك نمثل المشهد الثقافي في المملكة خير تمثيل بتكريسنا لخطاب مثل : خطابنا وخطابهم وخطابكم ، لابد أن نتفق على (خطابنا) نحن جميعا ، خطاب الوطن ، متى ما جعلنا الوطن هو الهاجس في حوارنا وهو الأول والثاني والآخر والأوحد ، عندها سنحترم اختلافاتنا ونؤمن بالتعددية والتنوع ، أما ما يمثله المشهد الثقافي في المملكة فهو الفرقة وتصيد أخطاء بعضنا البعض ، لصالح من ؟ لا أعلم لكنه بالتأكيد ليس في صالح الوطن) ! وقد شخّص مشارك آخر سبب هذا الجحود والداء المزمن في تغييب الوطن عن المشهد الثقافي المهيمن بقوله : (أثني على الذين لا يريدون أن يكون هذا المنتدى لتصفية حسابات التيارات بعضها مع بعض ، لكني أربد أن أؤكد أننا يجب أن نعود إلى الأولويات ، عندنا مشكلة إننا منذ ثمانين عاما لم نستطع تكوين وطن منسجم ، ما زلنا موزعين بين الولاءات الصغيرة للأسرة والقبيلة والمنطقة والمذهب ، وبين الولاءات الهلامية الكبرى مثل الأمة الإسلامية ، المفقود بين الطرفين هو الوطن ، وما لم نحل مشكلة الوطن التي تكمن في تعريفه لن تكون لنا أي تنمية ثقافية)! وللتأكيد على غياب الوطن ومصادرته ليس في هذا الحوار بل في المشهد الثقافي برمته ، قال مشارك آخر : (يجب أن نعترف أنه بفضل خطابنا الثقافي أصبحنا مستودعاً ضخماً للإرهاب العالمي ؛ ابتداء ًمن نهر البارد إلى أفغانستان والشيشان واليمن والصومال ، لم نعد خطراً على أنفسنا بقدر ما أصبحنا خطراً عولمياً ، هؤلاء نتاج الخطاب الديني المتطرف - ليسوا طلاب حمزة المزيني ولا تركي الحمد ولا عبدالله الغذامي - إذا أردنا أن نحاكم الخطاب الديني المتطرف فانظروا ما يتعلق بجازان ، 6900 أسرة تعيش في الخيام ، من الذي انتصر لهم ؟ من الذي دعا لهم في القنوت ؟ لماذا يدعون حتى الجمعة الفائتة للمجاهدين في كل مكان على وجه الأرض ؟ وكأن 6900 أسرة سعودية لا وجود لهم ، لو كانوا في أفغانستان أو تورا بورا أو الشيشان لجاهدنا وانتصرنا لهم ، لكن خطابنا الثقافي صادر منا الوطن). إن غياب الوطن مفردة وهاجساً وهمّاً من هذا الملتقى في جلساته الأولى (هناك محور خاص بالوطن والهوية) في مداخلات بعض المشاركين ، ليس إلا صورة مصغرة لغيابه غياباً حقيقياً عن الخطاب الديني سواء أكان ذلك في المدرسة أم المسجد أم في الشارع أم في المجتمع برمته ، ولا أغالي عندما أقول لقد كان تغييباً متعمداً لصالح الأممية الإسلامية في المقام الأول ، ولأن الوطنية عندهم مفهوم وافد ودخيل ، فإنها تضرّ بمكانة المملكة إسلاميا التي جعلها مثابة للناس وأمناً تهفو إليها قلوب كل مسلمي العالم ! لذا فإن الولاء يجب أن يكون للأمة وليس لهذا المفهوم بمساحته الضيقة التي تسمّى وطن !!! ومن القضايا التي كانت حاضرة بقوة منذ بدء الجلسات قضية الهيمنة على الخطاب الثقافي في بلادنا ، فكل تيار يتهم الآخر بذلك حدّ اختطاف المشهد كله ، كما في قول أحد المشاركين ( الإعلام مختطف والتي تختطفه فئة واحدة ، وبنظرة للحاضرين (62) انظر من الذي تكثر كتابته في الصحافة أو يظهر في الإعلام السعودي ، أو أن يبرز رأيه لترى لمن تكون الكفة ، مما يضطر الآخر إلى أن يتجه إلى منبر آخر ليرد أو ينافح) . وقد أنكرت إحدى المتداخلات أن يكون التيار الديني هو من يهيمن فتساءلت : (ما المقصود بالخطاب المهيمن ؟ وما هي الثقافة المهيمنة ؟ وكيف حاربت العلم وما الأدلة ؟ وكيف حاربت الفنون وما الأدلة ؟) . لا يستطيع أحد أن ينكر هيمنة الخطاب فالهيمنة موجودة وإن تعددت أشكالها واختلفت قوة وتأثيراً ، وحسب ما قاله أحد الكتاب في مداخلته عن الهيمنة وأيّ تيار له الغلبة في ذلك (أعترف أن الإعلام المكتوب يسيطر عليه تيار واحد ، لكن في المقابل الحصة غير متساوية ، وزارة الشؤون الإسلامية قالت إنها أقامت في العام الماضي 1500 منشط دعوي ، أي نصف مليون منشط ، فإذا كان التيار الليبرالي يسيطر على المنبر الإعلامي ، ففي المقابل هناك تيارات أخرى تسيطر على المشهد التعليمي في الجامعات والتعليم العام ) . لكن مشاركاً آخرَ أكد هيمنة التيار الديني على المشهد الثقافي بمثال واقعي عندما قال : ( الذي يشكك في مسألة أيّ تيار يهيمن فلينظر إلى الفضلاء الذين على منصة الرئاسة – مع احترامي لكل شخص منهم – لكن هذا يؤدي رسالة رمزية بأن هناك تياراً مهيمناً وهو الذي يتولى رئاسة هذا الحوار طوال الست سنوات الماضية ، وكأنه يؤدي رسالة أخرى بأن هذا التيار هو حلال المشاكل بينما يشهد المشهد الثقافي طوال السنوات الست بأن الحراك الثقافي الحقيقي في المجتمع نشأ عن نقد هيمنة هذا التيار ، يجب أن يكون الوطن متسعاً للاختلافات المذهبية والمناطقية والفكرية ، وأن يتساوى الجميع وألا يأخذ أحد حق أحد ليهيمن عليه) . وما يقوله صحيح ليس في قاعة الحوار بل في المجتمع بأسره وفي المؤسسات ولدن الطوارئ ؛ فالتيار الديني هو الذي توكل له المهمات دون الآخرين وكأنّ رسالة تُرسل مفادها أنه يُطمئن إليهم دون غيرهم ، وعلى سبيل المثال نجد ذلك في تعليم البنات منذ إنشائه ولم يتغير ذلك إلا مرتين ، ورئاسة مركز الحوار الوطني ومجلس الشورى والجمعية الوطنية لحقوق الإنسان عند إنشائها ، ناهيك عن الجمعيات الخيرية ، ومهرجانات جمع التبرعات التي تخصص لها أيام في التلفزيون ، علاوة على قوافل الإعانات التي ترسلها المملكة للخارج ، هذا وغيره يؤكد هيمنة تيار واحد لا غير ! لقد تساءلت في الجزء الأول من المقال : لمَ نتحاور، وعلامَ نتحاور ؟ وهل الحوار ظاهرة صحية في مجتمعنا بمعنى أننا سنخرج منه ونحن أكثر اتفاقاً أو أقرب إلى الاتفاق ، أم أننا سنخرج منه ونحن أكثر تشرذماً وأكثر إصراراً على تمسك كل منا برأيه الذي لم يؤثر فيه الحوار بل زاده حدة وتطرفا إما نحو اليمين أو نحو اليسار ؟ سأترك الإجابة للقراء الكرام ، فما عرضته في جزئيْ المقال يحمل في ثناياه الإجابة الشافية . ولي وقفة في مقالات أخرَ عن (واقع المؤسسات الثقافية في خطابنا الثقافي) و(نحن بين الهوية والوطنية) ، وهما المحوران الآخران اللذان يستحقان الوقوف عندهما بكثير من التأمل لحقيقة الخطاب الثقافي الراهن في بلادنا .