ليست هناك علاقة مباشرة بين إعلان اليونسكو العالمي عن التنوع الثقافي الذي اعتمد قبل عقد من الزمان ، وحوار المركز والأطراف مع أنهما يصبان في المسار ذاته، فالتنوع لم يكن يشكل أزمة ثقافية في يوم من الأيام، ولم يرفض الناس على اختلاف تياراتهم السياسية والاجتماعية والفكرية هذا التنوع على اعتبار أنه يندرج ضمن ناموس الحياة، غير أن الإشكال يبدأ عندما يندرج هذا التنوع في سلم طبقي وتتحول ألوان الطيف الثقافي إلى تراتبية رأسية تعلي من شأن ثقافة معينة وتحيل بقية الثقافات إلى هوامش على المتن أو كواكب تدور في فلك النجم الساطع، ثم تغير مفهوم التنوع إلى التعدد باعتبار أصالة وتعدد الهويات المميزة للمجتمعات وللجماعات الثقافية داخل المجتمع الواحد فتتجاور الثقافات وتتعايش وتتبادل دون محاولة تذويب بعضها في الثقافة الكبيرة أو المهيمنة أو على الأقل جعلها تقاسيم وتنويعات على اللحن الأساسي، ومن هذا المنطلق تنبعث من فترة لأخرى نقاشات المركز والأطراف وهي عادة تنطلق من الثقافات التي ترى أنها تتعرض للتهميش أو التشويه أو تشعر أنها تشكلت بدرجة تكفل لها مشروعية المطالبة بالندية والمساواة. حوار المركز والأطراف صار حوارا للطرشان تأخذ فيه الجماعات والمجتمعات الطرفية أسلوب الاتهام فيما تأخذ الثقافة المركزية موقف الدفاع أو التبرير أو الهجوم المضاد ضد مايفسر بأنه حركة التمرد ضد السلطة الأدبية أو المتفضلة، وهو حوار نجده داخل القطر الواحد بين ثقافة المناطق وثقافة العاصمة المهيمنة في مختلف الدول، كما نجده في داخل الجسد العربي على المستوى الإقليمي في الخليج أو المغرب العربي أو بلاد الشام وعلى المستوى القومي في مصر مثلا، وتتناثر معها عبارات مثل الحقد والجحود والفضل والمنة والأخت الكبرى والشقيقات الأصغر. فكرة المركز والأطراف بهذا المفهوم تفكير طفولي لايختلف كثيرا عن المراهق الذي يرى أنه قد كبر وأنه يفهم الدنيا أكثر من والديه، وحتى لو كان هذا الفهم صحيحا فإنه لايعطيه مبررا لتبادل الأدوار، وشعور كثير من المناطق العربية بخلخلة المركز والأطراف نابع مما تحقق لديها من نهضة ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية واعتزازها بالمنجز الخاص بها، وهو منجز مهم وكبير ويضيف دون شك إلى خارطة المنجزات العربية من مصر والسعودية وسورية وغيرها، غير أن الخلل يكمن في الرؤية نفسها وهي الرؤية الأبوية أو الرأسية القائمة على اليد العليا واليد السفلى، والذين يعيدون طرح الفكرة لاينقضونها أو يعدلونها وإنما يستبدلون مركزا بمركز وأطرافا بأطراف في حين تبقى المنطلقات نفسها والأنا الذاتية لم تتغير وإنما انتقلت من مكان إلى آخر، فهي تغيير في المراكز الجغرافية دون اختلاف في الرؤية أو المفهوم. لم تعد الثقافة في القرن الحادي والعشرين مركزية وإنما أصبحت تأخذ امتدادا سينكرونيا يتساوى فيه الكل ويشترك فيه الجميع، ففي الفن لم يعد الناس ينتظرون الحفلة السنوية لسيدة الغناء العربي أم كلثوم أو حفلة الربيع لفريد الأطرش أو حفلة 23 يوليو للعندليب الأسمر أو إطلالة السيدة فيروز السنوية في مهرجان بعلبك، وإنما أصبح الفنانون جنبا إلى جنب في حفلات بيروت والقاهرة ودبي وجرش وأصيلة، فترى كاظم الساهر من العراق وأحلام من الإمارات ومحمد عبده وراشد الماجد ورابح صقر من السعودية ونبيل شعيل من الكويت وديانا كرزون من الأردن وأصالة من سوري وعمرو دياب وتامر حسني وشيرين من مصر وإليسا ونانسي من لبنان والشاب خالد وفلة من الجزائر ولطيفة من تونس وغيرهم، وفي مجال السرد أصبح القارئ العربي يقرأ روايات تصطف جنبا إلى جنب في المكتبات العربية، وتجد في مكتبته روايات عبده خال ونورة الغامدي من السعودية وسمر يزبك من سورية وعلاء الأسواني وميرال الطحاوي من مصر وأحلام مستغانمي من الجزائر ووليد الرجيب من الكويت وعلي المقري من اليمن، وتتعدد الأسماء في المجالات المختلفة في الاقتصاد والاجتماع والفكر والشعر والتراث وتحقيق المخطوطات والنقد واللغويات. والحوار الثقافي الذي يدور الآن في مصر هو حوار بناء ومثمر لأنه يتجاوز ردود الفعل والحساسية والغضبة المضرية على النحو الذي جرى في معرض الرياض الدولي للكتاب في مارس الماضي عندما غضب الأديب جمال الغيطاني من مداخلة اعتبرها مسيئة لمصر ودورها أثناء ندوة الثقافة العربية .. المركز والأطراف. واختلف الحضور وقتها حول هذه الغضبة ثم انتهى الأمر على أنه خطأ في التعبير من طرف وشوفينية عالية من طرف آخر، وحوار مصر الجاد يشتمل على الوجهات الثلاث أقصى اليمين الذي اتضح عقب الأحداث الرياضية التي أسالت مياه البحيرة الراكدة في الملف الذي فتحته مجلة روز اليوسف وأجابت فيه 35 شخصية سياسية ودبلوماسية وبرلمانية وعامة عن سؤال العروبة والمصرية كما كتب رئيس تحريرها عبدالله كمال مقالة بعنوان كراهية أم الدنيا.. كيف نواجه الحقد على مصر؟ محيلا إلى سياق السؤال التاريخي الشهير الذي أطلقته أمريكا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر Why they hate us؟ وأقصى اليسار في طرح إبراهيم عيسى رئيس تحرير الدستور المصرية سؤاله المستفز هل مصر فعلا صاحبة فضل على البلاد العربية؟ ووضع الأسئلة تحت عنوان عريض هو الحقيقة التي لا تريد أن تعرفها أبدا، والاتجاه العقلاني الموضوعي الذي تجلى في طرح وزير الثقافة المصري فاروق حسني في معرض الكتاب بالقاهرة عندما قال للأدباء والمثقفين ردا على السؤال الساخن نفسه: لا يجب أن نصدق من يقول بأن البساط الثقافي يسحب من تحت مصر، فكيف يمكن هذا ولدينا 120 متحفًا، وهذا يدل على أن مصر متقدمة ثقافيا، وما يحدث من تراجع إنما هو تقصير من مبدعيها، وعن السبب في انحسار الثقافة المصرية أكد على أن الثقافة عملية إبداعية تبدأ بالتعليم ولابد أن تتكاتف فيها كافة الوزارات، والدكتور جابر عصفور الذي تحدث عن مصر الواحة والمنارة والريادة والقيادة وأن مكانة مصر الثقافية لم تكن قائمة في فراغ وإنما هي جزء من منظومة متقدمة بالقياس إلى غيرها، وقد كانت الثقافة ولاتزال تتأثر بعناصر المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية ثم جاءت مجموعة من المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية أثرت في دعائم التفوق المصري الثقافي وان طليعة المثقفين يعرفون مدى الانحدار الذي أصاب الثقافة العامة والتراجع في الوعي الجمعي وما أصابه نتيجة التغيرات السلبية في علاقات إنتاج الثقافة وأدواتها، ولكن مع ذلك مازالت هناك قوة في صالح مصر كالثروة الهائلة في الآثار والمتاحف وشبكة المكتبات وعدد الأفلام السينمائية المتميزة كميا وفي حالات قليلة كيفيا و450 قصرا للثقافة وفوق ذلك كله الإبداع الثقافي المستنير والمتحرر فكرا وأدبا وفنونا مختلفة. الشخصية القومية المتفردة أو البطل القومي لم يعد موجودا في العالم كله، ولم يعد هناك الزعيم الأوحد الذي يخطب فتلتصق آذان العالم العربي كله بجهاز المذياع أو تتسمر أعينهم على التلفزيون أو يهتف فتتحول الشوارع جميعها إلى حناجر تشق الأجواء، وتفتتت هذه الشخصية إلى شخصيات حسب البيئة الثقافية أو العلمية أو الاقتصادية أو الرياضية أو الوظيفية أو الافتراضية، وهي شخصيات تأخذ طابع الموضة تلمع ثم تختفي، فتجد سائق التاكسي في الأردن أو السودان أو العراق يهتف لأبوتريكة المصري وياسر القحطاني ومحمد نور من السعودية وكريم زياني الجزائري وميسي الأرجنتيني كما يحلل لك خسارة الاتحاد أمام كوريا ومصر مع الجزائر وريال مدريد مع برشلونة بنفس البراعة والإحاطة، ولم يعد البطل السينمائي هو العميل السري 007 أو رامبو وإنما هو اليوم طارق الواصل أو مناحي وبالأمس نمر بن عدوان واليوم أنجلينا جولي او جاكي شان أو توم كروز. ثورة الاتصالات وثورة المعلومات في عصر العولمة ألغت الاتجاه الرأسي أو الدياكروني في العالم أجمع، ولذلك فمن المهم أن تنصب الدراسات الاجتماعية والإعلامية والسياسية والثقافية على التواصل البيني بين الأفراد من جهة وبين الدول أو الشعوب من جهة أخرى والبحث عن مكامن الخلل في تحقيق هذا التواصل الذي يجب أن يتم بتفاعل الجميع وإن اختلفت النسب والإمكانات والرصيد الحضاري عبر خطط إستراتيجية عربية مشتركة، فمن المؤلم أن تحقق القنوات الغنائية بكليباتها وشركات الاتصالات برسائلها وحدة عجزت الأجهزة القومية المشتركة عن تحقيقها على مدى أكثر من نصف قرن.