يكتب الكاتب الصحفي طيلة العام لقرائه، ألا يشفع له هذا أن يكتب مرة في العام عن بعض هواجسه وقضاياه؟ لا اعرف ان هناك مهنة ضاغطة كمهنة الكتابة الصحفية التي تتطلب الالتزام اليومي أو الأسبوعي، وهي إذ تتطلب الجودة، فهي تتطلب أيضا تجاوز أسوار كثيرة، فالكاتب لا يكتب لنوعية خاصة من القراء، ولكن يكتب لمجتمع من القراء تختلف قدراتهم واتجاهاتهم ومواقفهم. أن تكون كاتبا، فأنت بشكل أو بآخر تنتمي لمهنة القول، وهي مهنة محفوفة بمخاطر القول أو مخاطر التراخي والإنتاج الضعيف. بعض القلق يعصف بعقل الكاتب قبل أن تتراخى كلماته أو يتوهج، تلك المساحة الشاقة بين القول والإحجام، بين التعبير والانكفاء، بين مقاربة الحقيقة أو ما يراه حقيقة أو طمرها بما يشبه حالة اغتيال للفكرة، وهو ما يخنق الكاتب قبل أن تختنق الكلمات على أوراقه وبين أصابعه التي تلتف عليها مثل حبل المشنقة. تأتي مشقة الكتابة الصحفية الجادة من أمرين، أولهما ذلك السقف الذي يحمله الكتاب في رأسه، وهو يدرك من أين يبدأ لكن ربما لا يدري أين ينتهي. والأمر الآخر أن يبقى كاتبا متوهجا لدرجة أن يصبح قوله تحديا لا تراكما بلا وهج، وإشعالا لأحداق الفكرة لا طمرا لملامحها. ومما يضعف التوهج أن تتحول الكتابة إلى مشروع هذيان على ورق الصحف أو معاودة تسخين العشاء البائت في كل مرة تُعجز الكاتب قدراته وجلده وبحثه عن فكرة تنبثق من بين اليومي أو على ملامح السطح تنتظر أن يستلهمها لتشتعل أحداقه بوميضها. ألا تكون هنا الكتابة بهذا المفهوم إحدى اشق المهن وأكثرها قلقا؟ الكاتب الجيد يشبه الفنان الموهوب وهو يقف على خشبة المسرح، مجرد إحساسه بأن أداءه يفتقد حرارة التأثير هو مقتل حقيقي. في قضايا المنع، ليس كل ممنوع مرغوبا طالما كان هذه المنع يتحرك في إطار حفظ حق المجتمع والالتزام بسياسة صحيفة لا تصادر أيضا حقه بالقول طالما كان قولا مسؤولا. المنع حالة اختناق، إلا أنه ليس كما يظن البعض، فمراوغته تتطلب بعضا من الحذق ومهارة الصنعة.كل ممنوع مرغوب عندما يصبح المنع أداة تقييد بلا وعي القيد وشروطه وحدوده، سواء في عقل الكاتب أو المسؤول عن النشر. تأتي أكثر حالات المنع إحباطا عندما تجهض الفكرة وتتراكم المخاوف بلا مبرر وتؤدي لانحسار فضاء الكتابة. العامل النفسي بفكرة القيد، ربما كان أكثر خطورة وأذى من حقيقة ونوع ومستوى التقييد ذاته. أجمل القيود - إن صح التعبير - ما يقيد به الإنسان نفسه رضا واختيارا، وأكثرها قسوة ما يراه قسرا لروحه المحتبسة في قمقم المنع والتقييد. وربما ما يُبقي الكاتب على قيد الكتابة، ذلك الشعور بالبقاء على قيد الحياة. والحياة عنوان كبير يستلهمه بعض الكُتاب عبر واجهات الحضور اليومي في مهنة كتابة، وربما يستلهمه كاتب آخر عبر ضخ وهم الفعالية أو حقيقتها في دوره وتأثيره. بعض الممنوع يستحق المنع فعلا، لأسباب ربما تكون متعلقة بمستوى الكتابة أو التناول، لكنه مؤذٍ حقا عندما يستهدف إثارة مخاوف لا مبرر لها. وفي عالم لم يتجاوز الرقابة على المطبوع، فهو يترك اليوم مجالا زاخرا وواسعا لفضاء بلا قيود. البقاء على قيد الكتابة، ليس عنوانا يسقط في حالة المنع من النشر، إنها حالة نفسية يعيشها كثير من الكُتاب، الذين تومض عيونهم ببريق خاص عندما يجدون تراكما جميلا خلقه فعْل الكتابة، وهو يحرك الراكد، ويراكم القول. ولذا تبقى تلك المساحات بين المنع والإجازة ميدانا يمارس فيه الكاتب الحاذق فن المناورة، ولا تكفي فيه قدرته على الركض فقط. عندما نخفي بعض عناوين القول لحساب المنع فهذا تجاوز على حق القارئ، وهو يعني المشاركة في زيادة مساحة العتمة بين القارئ، وبين عين تقارب الوقائع كما هي لا كما يُروج لها أو كما ينبغي أن تكون عين الكاتب. كما أن ما يُظن به حقائق أحيانا هي مزيج من حقائق وأوهام إذا تركت مادة خاما لقارئ عابر لا يملك القدرة على تفكيك منظومة تلك المادة ووضعها في قوالبها واكتشاف خلفياتها، وقد يعثر قارئ جاد على المعلومة لكن ربما تخذله أدواته عن كشف أبعادها وتلمس إضاءتها أو عتمتها وهذه مهمة كاتب من نوع آخر. يُعزّي بعض الكتاب أنفسهم بالبحث عن منتدى الكتروني أو نافذة خلفية لنشر الممنوع، ومن يتابع بعض ما يأتي تحت عنوان "منع من النشر"، قد لا يجد فيه الكثير مما يستحق المنع. وهو مؤشر على معايير القبول والمنع التي قد تعطي هالة المنع لما لا يستحق المنع أصلا. ولا أجد حماسا في نقل ما يمنع من النشر لواجهة منتدى الكتروني لثقتي بإمكانية أن تتطور ملامح صحافة الرأي بالمزيد من ضخ الحياة في أوصالها لا الهروب منها لوسائل أخرى. لن يتمدد سقف الكفايات من حرية القول المشروع بالهروب من واجهة صحافة يومية لمنتديات الكترونية النادر منها من يحافظ على واجهة تحترم عقل قارئ، والكثير منها يزخر بأشباح تمارس دورا أخطر من دور الرقيب. وهو يقترب أحيانا من إجهاض الفكرة قبل أن تصل ملامحها لعقل قارئ. وتبقى الصحيفة الناجحة متواطئة في تحرير مساحة القول، وهي تقبل أن تمارس معها كل فنون المناورة لتخرج مقالا من قمقم المنع لحيز النشر. أثق أن مساحات التعبير ليست حيزا ضيقا خانقا لدرجة الإحباط، وتعتمد أيضا على إجادة متورط في الكتابة لفن البقاء دون أن يفقد ملامحه. وربما كان من أكثر عوامل البقاء أهمية أن يظل الكاتب متوهجا مقنعا لقرائه، وأن يكسب في ذات الوقت ثقة من يملك سلطة إجازة النشر. وهذا الأخير، يُقدّر له في أحيان كثيرة تحمله لمسؤولية إجازة ما ينشر، فهو يحمل أيضا قلقه معه. والتألق لا يمكن أن ينتج إلا مصحوبا بحالة القلق، قلق ولادة الفكرة، وقلق وضعها في قالب النشر، وقلق التفاعل والتأثير. تتسع الأوطان لأبنائها عندما يجدون في قنوات التعبير تلك المساحة التي يمارسون من خلالها إحساسهم بالبقاء كائنات إنسانية سواء كتابا أو قراءً، مبدعين أو متلقين، منتجين أو ناشرين ... والكاتب لا يملك سوى ذلك القلم فهو لا يحمل سيفا مسلطا ولا عصا غليظة ولا سلطة تقيده اكبر من سلطة القول، وهو معرض لكل ما يؤثر في البشر من نوازع وخلفيات، إلا انه يُفترض أن يبقى أكثر موضوعية في التناول الرصين، على افتراض أن الكاتب هو مشروع يدين للكتابة بالبقاء.. لا بكسب الرزق اليومي تحت ظلال حرف. هناك من يأخذه قدَره للكتابة في صحافة يومية ثم يعود أدراجه دون أن يواصل مشروعه، وهناك من يقوى على المواصلة عبر رعاية ذلك الخيط المشدود لعالم القول المسكون بقلق التألق والبحث عن التميز ومخاتلة المنع. على القارئ أن يدرك أن الكاتب إنسان مأزوم، بينهما عقد غير مكتوب طالما قوي على الركض في مساحات القول، ولكن يستحيل أن يحافظ الكاتب دائما على تألقه دون أن تمر حالات من الاسترخاء أو العزوف أو الحاجة لالتقاط الأنفاس.