تتخذ معادلة الصراع حول المشروع النووي الإيراني، بُعدها الأكثر أهمية بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوإيران. بينما هي تحمل ملامح صراع على النفوذ والمصالح بين القوى الكبرى ذاتها، وإن ظلت الولاياتالمتحدة هي الأكبر والأقوى في هذه المرحلة. هناك رؤية أخرى جديرة بالنظر والتأمل، وهي تذهب إلى أن المواقف المعلنة ليست كافية للحكم على طبيعة العلاقة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وجمهورية إيران الإسلامية، وهي تعتمد على مفهوم أن السياسة تحتمل من الإخفاء أكثر من المتداول والمعلن، وأن العلاقات لا يشدها لحبل البقاء بين الخصوم والحلفاء سوى أثمان المصالح الدائمة وحجمها والخسائر المحتملة وكلفتها. وأن الصراع الدولي على المصالح في منطقة الخليج والشرق الأوسط لا يمكن أن تغطيه علاقات الحلفاء الغربيين المعلنة، وأن تقاسم النفوذ والامتيازات هو في النهاية من يضبط شكل العلاقات بين هذه القوى. هذه الرؤية تدور حول أن سياسة تصوير الخطر الإيراني وأثره على العرب والمنطقة والعالم ستظل ورقة أمريكية رابحة، يمكن الانشغال بها حتى يحسم الموقف بشكل جلي في كل من العراق وأفغانستان. وأن التحالفات بين الأعداء الظاهريين ممكنة والدليل واقع التحالفات التي تمت على أرض العراق، حيث يتعايش حلفاء أمريكا وإيران في تقاسم المصالح والامتيازات والحكم. كما أن التصريحات الإسرائيلية العلنية حول نيتها ضرب المفاعلات الإيرانية تبقى لصالح وفائدة النظام الإيراني وليست ضده. وقد تبدو تلك التصريحات مرعبة للنظام العربي، وخاصة دول الخليج العربية أكثر منها عند النظام الإيراني نفسه. وسيبقى الضغط الإعلامي والسياسي لفترة حتى يتكشف الموقف الإيراني النهائي، ويتجسد بتعاونه المعلن والصريح وبشكل واضح وفق تقاسم وظيفي واستثمار مشترك لقضية الطاقة والنفط في المنطقة والسيطرة المتفاهم عليها على الممرات المائية لنقل الطاقة عبر الخليج ووسط آسيا. الولاياتالمتحدة تحتاج مثل هذا الدور الإيراني في العراق لحفظ سلامة قواتها في القواعد العسكرية الدائمة، وتمكين مشروعها بالعراق. كما أن معركة الولاياتالمتحدة مع حركة طالبان في أفغانستان وباكستان تقدمت في أولويات الإدارة الأمريكيةالجديدة، وتتداخل في كثير من مفاصلها والأدوار الإيرانية المطلوبة، مما يدعو لصياغة تحالفات جديدة. وفي هذه الظروف يمكن فهم التحذيرات الأميركية التي وصلت إلى إسرائيل من مغبّة توجيه ضربة أحادية إلى البرنامج النووي الإيراني. ومن خلال هذه الرؤية يمكن فهم تهدئة القوى الشيعية المتحالفة مع إيران في العراق وهدوء الجنوب العراقي. ويمكن فهم التقاسم الوظيفي للنفوذ في المنطقة الخضراء بين حلفاء إيرانوالولاياتالمتحدةالأمريكية. ويمكن فهم اللغة المختلفة في تعاطي الولاياتالمتحدةالأمريكية مع المعارضة الإيرانية. ويمكن ملاحظة أن الاحتجاجات الواسعة للمعارضة الإيرانية التي صاحبت نتائج الانتخابات الإيرانية الأخيرة، والتي تواصلت في أكثر مناسبة وآخرها مناسبة عاشوراء، والتي تحولت إلى مواجهات دامية بين قوى الأمن الإيراني والمتظاهرين... يمكن ملاحظة أن ردود الفعل الأوروبية هي الأقوى وهي الأكثر مواجهة وهي الأوسع نطاقا بينما ظلت الاحتجاجات الأمريكية حذرة، ومن لزوم التعبير عن موقف أمام الرأي العام الأمريكي والدولي. ويمكن ملاحظة أيضا أن الجهد الإيراني الرسمي في الهجوم على الحكومات الغربية المؤيدة للمعارضة يركز على الدور البريطاني تحديدا، وعلى خلفية العمليات التفجيرية التي طالت مناطق الجنوب في إيران العام الماضي ونالت من بعض قيادات الحرس الثوري اتهمت إيران بريطانيا بدور فيها بلا تردد. تدور تلك الرؤية حول أن الولاياتالمتحدةوإيران تتقاسمان أدوارهما بالتوافق والتراضي رغم بعض حالات الشد وعض الأيادي أحيانا، ولكن في كل الأحوال لن تصلا إلى مرحلة المواجهة العسكرية مهما أعلن أن خطط الردع العسكري على طاولة القرار الأمريكي. العديد من تصريحات المسؤولين الأمريكيين تؤيد هذا، وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون قدمت تصريحا يوم 22/7 /2009 " أن الولاياتالمتحدة تضع في الحسبان توفير مظلة حماية عسكرية لحلفاء الولاياتالمتحدة في الخليج والشرق الأوسط وإسرائيل في حالة حصول إيران على السلاح النووي". ألا يحمل هذا مفهوماً ضمنياً بأن الولاياتالمتحدة ربما تدرك اقتراب إيران من مرحلة الحصول على سلاح نووي. أما مطالبة وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس للدول العربية، في وقت سابق من العام الماضي بأن تعزز قدراتها العسكرية وتزيد من تعاونها الدفاعي مع أمريكا من أجل الضغط على إيران للتخلي عن برنامجها النووي، فهو أيضا يعزز تصريحات كلينتون ويؤكد طبيعة الرؤية الأمريكية لواقع المشروع النووي الإيراني، ويثير مزيدا من الشكوك حول قدرتها على مواجهته أو حتى رغبتها في مواجهته. الموقف الأوربي اليوم أكثر تشددا تجاه إيران من الموقف الأمريكي. ويظهر هذا جلياً في العديد من التصريحات المتعلقة بشأن المشروع النووي الإيراني. وربما يعود هذا أيضا لشكوك بعض الدول الأوروبية كبريطانيا وفرنسا انه ربما تكون هناك ترتيبات أمريكية – إيرانية سرية تجعل منطقة الخليج والشرق الأوسط تحت السيطرة والهيمنة الأمريكية، وعبر التحالف مع قوة إقليمية صاعدة وهي إيران. هذه مجرد رؤية تعتمد على قراءة التباينات الظاهرة بين الشركاء الأوربيين والأمريكيين. التباينات في المواقف المعلنة تشير أحيانا إلى حالة صراع خفي وغير معلن بين القوى الكبرى، إلا أنها لا تظهر للعلن وتعتمد الإخفاء والسرية التامة. الصراع بين القوى الكبرى في المنطقة صراع مصالح ويعتمد الإخفاء في كثير من الأحيان، ويتم تغطيته عبر تقاسم النفوذ والمصالح بين الشركاء. أما موقف الدول العربية من المشروع النووي الإيراني، فهذا يعتمد على الدولة وطبيعة علاقتها بالنظام الإيراني.الدول العربية ليست كتلة واحدة في نظرتها وموقفها من المشروع الإيراني، ليس فقط ما يتعلق منه بالمشروع النووي، ولكن بالمشروع الإيراني بمجمله وموقفه من قضايا المنطقة وعلاقاته بأطراف متعددة ومؤثرة وتدخلاته المكشوفة والظاهرة. الدور الإيراني في المنطقة العربية لم يحدد فقط طبيعة العلاقات بين الدول العربية والنظام الإيراني فقط، ولكن أثر بشكل واضح على العلاقات العربية - العربية وساهم في تحديد طبيعة ومسار تلك العلاقات. يأتي موقف دول مجلس التعاون الخليجي المعلن، ليؤكد على حق إيران في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، إلا أنها تقف موقف المرتاب من تواصل هذا المشروع على وتيرة تنذر أن خلفه أهداف أبعد من توفير طاقة لمواجهة احتياجات إيران المستقبلية ويصل إلى مستوى تلازم المسار مع تطوير ترسانتها من الأسلحة الصاروخية وقدرتها على امتلاك سلاح نووي في منطقة تعاني من حالة اللا استقرار. موقف دول مجلس التعاون الخليجي المعلن، الرفض للمشروع النووي الإيراني العسكري يؤكد باستمرار على أهمية خلو منطقة الشرق الأوسط من السلاح النووي بما فيها الترسانة النووية الإسرائيلية. لا يظهر حتى اليوم أن هناك استراتيجية واضحة الملامح والأبعاد لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية حيال المشروع النووي الإيراني، ومازالت هذه الدول ترى أن الوسيلة السلمية من خلال الضغط الاقتصادي الفاعل على إيران يمكن أن يؤدي إلى نتائج ملموسة، وهي تدرك أن أية مواجهة عسكرية ستكون كارثة عليها وعلى المنطقة. مازال الملف النووي الإيراني مفتوحا على كل الاحتمالات. الخاسر الأكبر في معادلة الصراع في المنطقة هم العرب، حيث اللاعبون والمؤثرون والقادرون على رسم ملامح مرحلة من خارج دائرة التأثير العربية، فالقوى الإقليمية الصاعدة في المنطقة ليس من بينها دولة عربية واحدة، والقوى الكبرى عينها على تقاسم الحصص والامتيازات في منطقة تحمل في باطنها شريان الحياة لاقتصاديات الغرب، وعلى ظهرها تتحرك أزمات وتوترات جعلتها خلال ثلاثة عقود أكثر البؤر العالمية مصدرا للتوتر والأطماع والتنافس الدولي.