مقالة الأسبوع الماضي كانت تمهيدا يقدم خلفية عن طبيعة مشروع إيران النووي، وتاريخية هذا المشروع، واتساع قاعدة التطوير التقني بشقيه العسكري والمدني في إيران. ليس من الصعب على إيران أن تبرر مشروعها النووي اقتصاديا باعتبارها بحاجة ماسة لطاقة كهربائية تفي باحتياجاتها الحالية والمستقبلية، خاصة وهي تعتمد على 80 % من دخلها من الإيرادات النفطية، كما انه ليس من المستبعد رغبتها بالحصول على سلاح نووي، فطموحات إيران الكبيرة ورؤيتها لتحقيق مصالحها وحماية نظامها يأتي من وجهة النظر الإيرانية من خلال امتلاكها لقوة عسكرية ضاربة تجعلها جزءا من ترتيبات الأمن في منطقة الخليج وتأخذ مصالحها بعين الاعتبار وتؤمن نظامها القائم. المواقف الدولية والإقليمية من المشروع النووي الإيراني، لا يمكن فصلها عن طبيعة الصراع الدولي في المنطقة بين مشروع أمريكي وآخر إسرائيلي، وبين مصالح الدول النافذة في الاتحاد الأوروبي - فرنسا وبريطانيا تحديدا – أو روسيا والصين من جهة أخرى، كما لا يمكن فصل الموقف العربي أيضا عن طبيعية هذا الصراع والتحالفات في المنطقة. كيف تنظر إسرائيل إلى لملف النووي الإيراني؟ هناك وجهتا نظر من الداخل الإسرائيلي. الأولى، ترى أن السلاح النووي الإيراني سيكون موجها ضد إسرائيل. وبناء على هذا تأتي تقدير المخاطر الناجمة، والنتائج المحتملة على القرار السياسي والعسكري في إسرائيل، وسبل معالجة الوضع الجديد الذي سيقلب المفاهيم الأمنية والإستراتيجية لإسرائيل، مثل المفاهيم المعنية بالتفوق والردع والحرب الخاطفة والتفرد النووي...، وليس خفاء تلك السيناريوهات العسكرية التي تطرح في إسرائيل في مواجهة المشروع النووي الإيراني. فيما ترى وجهة النظر الأخرى، إن السلاح النووي في حال امتلاك إيران له لن يكون موجها لإسرائيل. وتذهب وجهة النظر هذه إلى أنه لا عداء حقيقي مع إيران، وأنه لا أطماع لدى الطرفين، ويدعمون وجهة نظرهم بجملة من الوقائع البعيدة عن الحملات الإعلامية المتبادلة، وأن إيران توظف الدعاية الإعلامية المضادة لإسرائيل من أجل تحقيق مكاسب داخلية وإقليمية، وتستخدمها ورقة ضغط وهي تستهدف بالدرجة الأولى حماية نظامها وتعزيز مكتسباتها وتمكين مشروعها. وهناك من يدعو في إسرائيل إلى الخيار العسكري، وبعضهم يعتقد أن على إسرائيل ألا تنتظر قرارا من الغرب في هذا الشأن، وأن توجه ضربة خاطفة للمنشآت النووية الإيرانية، بينما يرى آخرون أن إسرائيل لا تستطيع توجيه ضربة كهذه، لان إيران تنشر مفاعلاتها ومختبراتها وتجهيزاتها النووية في 20 منطقة مختلفة، وضربها يحتاج إلى عمليات قصف متواصلة طيلة أسبوع والى سماء مفتوحة بين إسرائيل وإيران، وكلاهما غير ممكن. وهنا يمكن فهم التهديدات الإسرائيلية بين الحين والآخر من أجل الضغط على النظام الإيراني من جهة لتقديم المزيد من التنازلات، وعلى دول مجلس الأمن من ناحية أخرى لبحث كل الخيارات الممكنة لإيقاف المشروع، ناهيك عن فرض عقوبات اقتصادية مؤلمة وفاعلة وذلك عبر التهديد المتواصل بقدرة إسرائيل على مواجهة المشروع الإيراني منفردة. ومع كل هذا لم تخل التصريحات الإسرائيلية من تناقض أو ما يوحي بالتناقض ففي تصريح غير مسبوق لوزير الدفاع الإسرائيلي يهود باراك ومخالف للخط الإعلامي الذي تبنته إسرائيل منذ عدة سنوات لصحيفة يديعوت احرونوت بتاريخ 18/9/ 2009 قال إنّ المشروع النووي الإيراني لا يشكل تهديدا وجوديا لإسرائيل!!. أما الموقف الروسي فلا يعدو أن يكون موقفا انتهازيا، فلقد استفادت موسكو من عقود تطوير المشروع النووي الإيراني، وهي أيضا مستفيدة من حالة تضعضع المشروع الأمريكي في المنطقة، والانشغال الأوروبي بالمشروع الإيراني، إلا أنها في اللحظة الحرجة لن تواجه الولاياتالمتحدة وأوروبا طالما ابتعدت هذه الأطراف عن المجال الحيوي لروسيا. في اللحظات الحاسمة يتخلى الروس عن مصالحهم الصغيرة وينحازون بصمت للدول الأكبر في معادلة القوة والمصلحة. بل إن حتى عقود روسيا العسكرية مع إيران تخضع للمساومة في اللحظات الحاسمة. تبدي إيران اليوم قلقها من توقف الروس عن تنفيذ صفقة شراء صواريخ أرض/ جو من طراز سام 300 وهي صواريخ قادرة على مواجهة الهجوم الجوي بكفاءة عالية. لقد عملت إسرائيل العام الماضي على تعطيل اتفاقية بيع روسيا هذه الصواريخ لإيران، وهاهي روسيا تؤجل تسليم هذه الصفقة مع كل المحاولات الإيرانية لإنفاذ العقد المبرم، وتلزم موسكو منذ أشهر الغموض بشأن صفقة بيع هذه الصواريخ التي تجعل من الصعب قصف منشآت نووية إيرانية، وفي وقت سابق كشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية أسرار القرار الأميركي بعدم نشر منظومة الصواريخ الدفاعية في أوروبا مقابل انضمام روسيا للجهود الدولية الدبلوماسية لمحاصرة مشروع النووي الإيراني. أما الموقف الصيني فهو وإن كان لا يبدي تجاوبا كبيرا من فكرة العقوبات الذكية التي دعت لها واشنطن ضد إيران الأسبوع الماضي، إلا أن المساومات بين القوى الكبرى ربما تحسم الموقف الصيني في اللحظة الأخيرة. تبقى العلاقات بين الدول الأصغر المتورطة في خصومات أو صراعات مع القوى الكبرى رهن علاقات المساومة على المصالح والنفوذ، وكم تكرر هذا خلال الأعوام المنصرمة. لا يظهر أن للصين طموحات كبيرة للانبثاق بقوة عبر سورها العظيم، ولذا تبقى ضمن معادلة العلاقات الاقتصادية، حيث يتم توزيع النفوذ وتقاسم كعكعة الامتيازات. يأتي الموقف الأمريكي المعلن كأكثر المواقف التزاما بمحاصرة مشروع إيران النووي لوضعه في دائرة الاستخدامات السلمية مع الرقابة المشددة. وفيما كان يرى المحافظون الجدد أنّ نجاح إيران في امتلاك السلاح النووي يعني قدرتها على إعاقة المشاريع الأمريكيّة الرامية إلى "إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط الكبير" وفق مصالح الولاياتالمتحدة، وبروزها كقوة إقليمية في منطقة حساسة وتعتبر شريان الغرب الصناعي، بالإضافة إلى قدرتها على تهديد "أمن إسرائيل" مباشرة أو من خلال تحالفاتها مع قوى أخرى بالمنطقة، يرى أيضا فريق آخر من الساسة والخبراء الأمريكان انه يمكن القبول بإيران نووية طالما أنجزت ترتيبات خاصة يمكن أن تجعل إيران جزءا من تحالف أمريكي لحماية مصالح استراتيجية في المنطقة. وبمجيء باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية يمكن ملاحظة أن اللهجة الأمريكية تحاول أن تتجنب تأجيج احتمالات مواجهة عسكرية. هناك رفع لوتيرة الضغط الإعلامي المعنوي مرة بالحديث عن عقوبات قاسية وذكية، ومرة بتصريحات تصعيدية جاءت على لسان قائد القيادة الوسطي الأمريكية الجنرال ديفيد بترايوس الذي أعلن أن الولاياتالمتحدة أعدت خطة طوارىء للتعامل مع إيران عسكريا إذا اقتضى الأمر. المستنقع العراقي واليوم الأفغاني مازالا يدميان القوة الأمريكية وهي بأمس الحاجة لتحقيق نقاط ايجابية في بلدين مازالا حقل استنزاف مفتوحا. هنا تظهر الحسابات الإيرانية التي تعتبر أن هذا المأزق هو الورقة الرابحة من اجل رفع كلفة أي نوع من المواجهة العسكرية. إشغال الولاياتالمتحدة والضغط عليها ورفع كلفة المشروع الأمريكي في كلا البلدين.. يمثل ورقة ضاغطة تستخدمها إيران للاعتراف بها كقوة إقليمية، ومن جهة أخرى تمكنها من تمرير مشروعها النووي، حيث لا ضمانات لأمن النظام سوى برفع الكلفة العالية لأية محاولة للمساس به. لعبة الشد والجذب واستخدام كافة الأوراق المتاحة سواء في لبنان أو العراق أو أفغانستان تؤثر بشكل مباشر في تقرير شكل العلاقات مع القوى الأكبر في العالم. الأسبوع القادم نقرأ في رؤية أخرى ربما تضرب في صميم المواقف المعلنة بين الإدارة الأمريكية والنظام الإيراني.