لماذا يتردد كثير من الناس في اللجوء للقضاء أو حتى يعزفون عنه، ولماذا يفرط كثير من الناس عن حقوقهم أو عن جزء منها عوضاً عن اللجوء إلى القضاء؟ ولماذا تصر الكثير من الشركات الأجنبية أو حتى المحلية على اللجوء إلى التحكيم لحل الخلافات التي قد تنشأ بينهم بدلاً من اللجوء إلى القضاء؟ قد تختلف الآراء حول بعض الأسباب إلا أنها ستلتقي حتماً في سبب رئيسي وهو أن العدالة بطيئة وطريق الحصول على الحق المطالب به سيمر بعراقيل ومعوقات وجهد مضني للوصول إليه. للبرهان على هذه النتيجة، لا يكفي مجرد إطلاق حكم عام مجرد وكفى، بل الأمر يستلزم سبر وتحليل وإثبات هذه النتيجة من خلال واقع الحال لا الافتراض. حينما نقول القضاء فإننا نعني القضاء بمفهومه العام ويشمل جميع الجهات التي نصت عليها الأنظمة المختلفة للفصل في المنازعات وإصدار أحكام أو قرارات تكون نهائية وحاسمة في النزاع وواجبة التنفيذ، أي المحاكم العامة وديوان المظالم واللجان الإدارية ذات الاختصاص القضائي والتي تجاوز عددها (75) لجنة. يمر حل النزاع بمراحل عدة حتى ينقضي، حيث تبدأ بطلب إحالة النزاع إلى الجهة القضائية المختصة وينتهي بتنفيذ الحكم القضائي الحاسم للنزاع. وإذا أخذنا مثالاً المحكمة العامة، فتبدأ تلك المراحل عن طريق تقديم صحيفة دعوى للمحكمة باسم رئيس المحكمة العامة متضمنة بيانات المدعي والمدعى عليه، وموضوع الدعوى، وما يطلبه المدعي، وأسانيده في الحق المدعى به. وبعد تقديم صحيفة الدعوى يتم إحالتها إلى أحد القضاة وتحديد موعد لنظر الدعوى يكون بعد شهرين أو ثلاثة من تاريخ تقديم صحيفة الدعوى، ويتم إبلاغ المدعى عليه بموعد الجلسة. وبعد أن يحل موعد الجلسة الأولى يتفأجا المدعي بعدم حضور المدعى عليه رغم تبليغه، وعلى أثر ذلك يحدد القاضي موعداً آخر لنظر الدعوى ويتم تحديده بعد شهرين آخرين، ومن ثم يتم تبليغ المدعى عليه مرة أخرى بموعد الجلسة الثانية، ويماطل المدعى عليه بالحضور، لذا يتغيب عن الجلسة الثانية، مما يضطر القاضي معه إلى إجباره عن طريق الشرطة للحضور في الجلسة الثالثة والتي يكون موعدها قد حدد بعد شهرين تقريباً من موعد الجلسة الثانية. أي أن هناك ستة شهور على الأقل قد مرت ما بين تقديم صحيفة الدعوى للمحكمة وموعد نظر الجلسة الثالثة والتي تعد أول جلسة يحضرها المتقاضون، وفيها يبدأ القاضي سماع بينات ودفوع المدعى عليه، ثم رد المدعي عليها وهكذا تتعاقب الجلسات إلى أن يتم صدور حكم ابتدائي من القاضي ناظر الدعوى بعد مرور سنة وأربعة أشهر من تاريخ طلب إحالة النزاع إلى المحكمة. وبعد صدور الحكم يطلب المحكوم عليه اسئتناف الحكم ويستغرق الأمر قرابة شهرين إلى ثلاثة في المتوسط، حتى يصدر حكم نهائي واجب التنفيذ، وهذا الحكم هو تتويج أولي لانتظار المدعي للوصول إلى حقه بعد انتظار سنة ونصف على أحسن تقدير، وهو تتويج أولي لأن لا فائدة أو قيمة للحكم القضائي إلا بتنفيذه عن طريق السلطات التنفيذية (الحقوق المدنية والشرط)، وتنفيذ الحكم بحد ذاته يعد معاناة أخرى للبيروقراطية المقيتة التي تسير بها تنفيذ الأحكام في الوقت الحاضر. لذا يلاحظ أن المدعي قد ينتظر سنتين حتى يتحصل على حقه، ولكن أي حق يصل إليه، هو الحق الذي في ذمة المدعى عليه فقط عند رفع الدعوى، ولكن السؤال هنا ماذا عن حق المدعي في تعويضه عن مماطلة المدعى عليه لمدة سنتنين حتى يصل إلى حقه. ماذا عن التكاليف والنفقات التي تكبدها المدعي، كتكليف محام، أو نفقات الذهاب إلى المحاكم والجهات التنفيذية، وكذلك الوقت الذي استنزفه في متابعة دعواه والتي قد تكون على حساب أعماله ومصالحه أو واجباته الوظيفية إن كان موظفاً. كل ذلك للأسف ليس له اعتبار في المحاكم السعودية إلا فيما ندر، فلو طالب شخص آخر بمبلغ (500.000) ريال، وبعد سنتين من المطالبة بحقه عن طريق القضاء يكون قد حكم له فقط بهذا المبلغ، في حين أنه وهو على سبيل الاضطرار لمواجهة تعنت خصمه في الوفاء بالحق الذي في ذمته، قد استعان بمحام لديه القدرة على معرفة الأنظمة والإجراءات الكفيلة للوصول إلى حقه، وحتى لو أراد أن يخوض غمار المطالبة بحقه بنفسه، فإنه سيتحمل نفقات عدة ووقت وجهداً ما كان سيبذل لو لم يتعنت خصمه في الوفاء بما في ذمته من حق. جانب من مبنى المحكمة الكبرى بالرياض فالمدعي بحق يكون قد ظلم بشكل غير مباشر عن طريق البطء في إجراءات التقاضي والتنفيذ، وظلم بشكل مباشر لأنه لم يتم تغريم خصمه جميع ما تكبده من نفقات وجهد نتيجة تعنت خصمه في الوفاء بالحق الذي في ذمته. والاستدلال بالمحكمة العامة كمثال، لا يعني استثناء ما يجري في ديوان المظالم واللجان الإدارية ذات الاختصاص القضائي، فالمواعيد بين الجلسات في تلك الجهات يستغرق عدة أشهر، ناهيك عن المدة الإجمالية حتى صدور الحكم، وهذا بخلاف تدقيق أو استئناف الحكم والذي قد يصل إلى سنة، وبسؤال أي شخص لديه قضية في لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية أو هيئة تسويات الخلافات العمالية أو لجنة تسوية المنازعات المصرفية، ستدرك مدى التأخير الكبير في مواعيد الجلسات حتى البت في الدعوى. قد يسهل الانتقاد والتنظير، ولكن هل هناك حلول عملية، الجواب بلا شك (نعم)، وهي حلول من الواقع الممارس في أنظمة مقارنة ويمكن تطبيقها لدينا، وستسهم في إنصاف أصحاب الحقوق وردع المماطلين ومنتهكي تلك الحقوق، وهي على النحو التالي: تحميل المحكوم عليه جميع نفقات التقاضي مثل اتعاب المحاماة، وتغريمه بمبلغ معين كتعويض للمدعي عن مماطلة خصمه في حضور الجلسات أو في حال كان الحق واضحاً فيه للمدعي به، وثبت أن المدعى عليه كان مماطلاً في الوفاء بالحق بدون أي سند شرعي أو نظامي، علماً بأن تغريم المحكوم عليه يستند هنا على العقوبات التعزيرية وليس على أساس الفائدة المحرمة للمبلغ المطالب به. زيادة عدد القضاة والمستشارين القانونين في اللجان الإدارية، حيث إن ذلك هو المبرر الدائم لتأخر مواعيد الجلسات، والذي يجب أن يؤخذ بالحسبان في مشروع تطوير مرافق القضاء والذي خصص له الأمر الملكي الكريم مبلغ (7) مليارات ريال قبل ثلاث سنوات. فرض رسوم رمزية على التقاضي، وتحميلها على المحكوم عليه. سرعة إقرار نظام التنفيذ، والنظر في إمكانية السماح للقطاع الخاص بمهمة تنفيذ الأحكام والتحصيل على حساب المحكوم عليه عند مماطلته في تنفيذ الحكم. إعادة النظر في المهام التي يقوم بها قسم الخبراء في المحاكم العامة. تقنين أحكام الأحوال الشخصية والمعاملات. وقصارى القول، إن العدل هو مساواة الناس أمام أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة، وتطبيق الأحكام على الجميع دون استثناء، والعدالة أن يٌنصف أصحاب الحقوق بإعطائهم حقوقهم في وقت معتبر لا أن ينتظروا طويلا وطويلا، فما بطء الحصول على الحق إلا ظلم مبطنّ حتى وإن كان غير مقصود. *مستشار قانوني