جاءه صوت أمه وهو في المهجر، كانت – حفظها الله – أوّل من دفعه إلى الهجرة، توقظه لصلاة الفجر وتدعو له بالهجرة، لم يكن لها من معيل سواه، لكنها كانت تعرف أنهم سيقتادونه ذات فجر إلى إحدى معاركهم الخاسرة، هي التي أرضعته حب الوطن والعروبة وكل القيم النبيلة، ولم يكن يرضع إلا حب أمه أولاً، وهاهي الآن تدعو له بالهجرة حتى في نومها. ما كان لديه من مؤهّل للهجرة إلى الغرب سوى ذلك الدعاء الذي يصعد من حنجرة أمه الحنون صباحا ومساء، كان عليه أن يجمع من المال ما يكفي لتهريبه إلى أحد شواطئ أوروبا، جمعت أمه ما يكفي للرحيل وأكثر. ما الذي يمكن أن أفعله هناك؟ وفي حيرته وضياعه، قالت له أمه: ألستَ شاعرا؟ أجابها بلى ولكنهم لا يفهمون العربية، ردّت عليه بأن الشاعر في لغته الأم لابدّ أن يكون شاعرا في اللغات التي يتعلمها، قالتها وهي تعرف أن الشعر لايسمن ولايغني من جوع في بلاد العرب، لكنها كانت تراهن على ما في الشعر والشاعر من طاقات، وأن مغادرة هذه الظلمة ستضيئ روحه وتمكنه من إنجاز ما لا يمكن لشاعر أن ينجزه في مثل هذه الشروط التي أوّلها الحرب وأفضلها انتهاك حقوق الإنسان. في يوم رحيله، صلّى الفجر على قارب مهترئ، كانت أمه قالت له لا تحزن فأنت لاتودعني، أنت تودع الموت وتستقبل الحياة. أخذته البحار والجبال والصقيع والجوع والخوف إلى باريس التي كان يعتقد أنها جنة الشعر والشعراء. تعلم الفرنسية وأجادها، وتعلم لغاتِ أوروبية أخرى وأصبح من خيرة المترجمين من كل هذه اللغات إلى بعضها وخصوصا إلى لغته الأم. كانت أمه الحاضرة في الغياب ، يقول إنه لم يكن يهنأ بأي وجبة، كان يخجل من نفسه إذا وجد نفسه أمام وجبة شهية، كان يتمنى أن يتقاسم كل متعة مع أمه، أصبح عَلَما ثقافيا وشعريا في باريس. ظلّت أمه تدعو له بالهجرة في كل مهاتفة بينهما، وكانت في كل مرّة تحصي له عدد القتلى والأرامل والأيتام في الحيّ، في كل مهاتفة فاجعة ورثاء، إلى أن شعر أنه يفقد وطنه، وفي كل مرة تصر عليه أمه وتمنعه من فكرة العودة، وكانت تنجح إلى أن غطى الموت كل مكان في الأرض والسماء، إنها مقبرة وليست وطناً يا بسّام . انقطع الشاعر عن أمه قليلا، هاتفه الجيران، أدرك أنه النداء الأخير. كتب اسمه على جدار مكتبة في باريس وعاد، لم يلحق من أمّه إلا قبلتها الأخيرة....