تقدم مني في إحدى أسواق الرياض شاب صغير لم يتجاوز عمره آنذاك عشرين سنة. قبل أن يقف أمامي تماما وضع على وجهه الابتسامة الصغيرة المعتادة. نشأ هذا النوع من الابتسام في فترة الصحوة. ابتسامة تختلط فيها روح الظفر بالاعتزاز بالسذاجة. أكثرنا شاهد هذه الابتسامة. يمكن التحقق منها بمشاهدة ما يسمى بالدعاة في التلفزيون. أفضل نموذج لها هي تلك الابتسامة التي يركبها عمرو خالد على وجهه عند مخاطبة جماهيره الأعزاء. عرفت أن الشاب يريد أن يمحضني النصيحة حتى قبل أن ينطق. بسرعة تفحصت نفسي. ما الذي يحتاج فيني إلى تصحيح. في اللحظة التي كنت أتفحص فيها نفسي سمعته يقول لو سمحت. التفت إليه وقال دون أن يسمع مني شيئا. تسمح لي أقدم لك نصيحة يا أخي فقلت على الفور: لا. ارتبك الشاب أيما ارتباك. من الواضح أنها المرة الأولى التي يسمع فيها كلمة لا. تركته غارقا في استغرابه ومضيت في طريقي. لا أريد أن اسمع نصيحة من احد. إذا أردتها طلبتها ممن أجدها عنده. كان هذا قراري منذ بدأت موجة النصح تتفشى في المجتمع. هؤلاء الشباب لم يكن دورهم تقديم النصح. كانوا أطفالا. سمعوا هذا الكلام الذي يسوقونه من كبارهم. ينشرون الايدولوجيا أو يحرضون على شيء. كانوا يدورون بالملصقات والمطبوعات والكاسيتات. يفرضونها بالتخويف الديني. يمثلون غيرهم بوعي وبدون وعي. انكمشت هذه الأيام فعاليات نصح الشوارع واقتحام خصوصيات عابري السبيل, إلا أن هناك جماعات مازالت تلف على المقاهي. صادفتهم مرة في أحد المقاهي خارج الرياض. كان عددهم حوالي عشرة. في عز الشباب. ثياب قصيرة وشمغ بلا عقل وكبيرهم يلبس (بشت) بلا زري. ملابس صحوية بامتياز. لفوا على كل الأماكن وأخرجوا الشباب من الغرف والزوايا وقادوهم إلى ساحة في وسط المقهى. تحس بسلطتهم على الناس. وقفنا أنا وزملائي لنرى المنظر. وقف أحدهم في الوسط. يبدو أنه أميرهم. كانوا ينادونه بالشيخ. شاب لم يبلغ الثلاثين من العمر. بدأ خطبته بنصائح عامة عن التدخين. ثم فجأة دون تمهيد راح يسأل بأسلوب مسرحي: من هو حبيبكم؟ من هو نبيكم؟ ينغم كلامه برنة تنم عن الفجيعة والتحسر والألم. ثم أعاد سيرة الصور المسيئة التي نشرت في الدنمرك وهو يكيل السباب والدعاء على الغرب. شعرنا أن في الأمر شيئا. القفز من الشيشة إلى الدنمرك يوحي بأكثر من مجرد نصيحة. سألنا الشيخ المزعوم: هل معكم أذن من وزارة الإعلام؟ فقال بأسلوب يوحي بالتهديد المبطن: معي أذن من ملك الملوك. استوعبنا الهدف فحذرناهم ففروا على الفور من المقهى. سمعت كثيرا عن هذه الجماعات. المشكلة لا تكمن في هؤلاء الشباب. المشكلة في السلطة التي نمحها لهم بذريعة النصيحة. زرع في أذهاننا أن من واجبنا الإصغاء لكل ملتحٍ. إذا جاءك إنسان لا تعرفه يريد أن ينصحك باسم الدين قل له: لا.