لا تَلُمْ كَفيِّ إذا السَّيْف نَبا صَحَّ مِنِّي العَزْمُ و.... أَبَى ولأني على يقين من أن قيادة بلادنا الواعية بأمور الحياة، وحاجة الناس ومتطلبات العصر، كان وسيبقى اهتمامها الدائم بالإنسان بحكم أنه هو غاية التنمية، وهو وسيلة تحقيقها، لذا فإن التربية بمؤسساتها كافة هي المخولة بتكوين هذا الإنسان الجدير بتحقيق التطور والنماء، والارتقاء الشامل المنشود. بل إنه لا يغيب عن البال ان دور التعليم (جمع: دار) بمختلف مستوياتها هي الحاضنة والمنتجة للإنسان الذي استخلفه الله في الأرض، وأراد منه إعمارها. من هنا فقد لزم ألا يغيب عن صناع السياسة التعليمية هذا الهدف السامي، الذي أشرت إليه في المقال السابق.. وهو (إعداد الإنسان الصالح، والمواطن الصالح)، وتحقيقاً لهذا الهدف يعد المعلم الذي يعي رسالته، وتوضع المناهج الملائمة المحققة لهذا الهدف دون شطط أو تقصير، وكل جزء من هذه المناهج تتم صياغته بما يجعله موائماً ومسهماً في تحقيق هذا الهدف، وفيما أذكره دائماً أهدف إلى الاسهام مع أهل الفكر والرأي في إبداء الرؤى، وتوضيح المقاصد للقيادة التعليمية في بلادنا التي هي في أمس الحاجة إلى المشاركة الصادقة - وكما أكرر دائماً - أرجو الا يعترض طريق سعيهم للتطوير من لا يعوون حقيقة الصواب فيما هو مقصود من تحقيق كل تطور ونهضة تؤدي في النهاية إلى إيجاد ذلك المواطن القادر الكفء بتحقيق النهضة والتنمية الشاملة القائمة على أساس عملي صحيح. *** وتواصلاً مع حديثي السابق عن شدة الحاجة إلى تطوير مناهجنا في مواد التربية الدينية - ذكرت بعض الحقائق التي لم تغب عن بالي حينما قدمت رؤاي عن هذه المناهج وما يجب ان تكون عليه، واستأنف الحديث عن بقيتها لعل فيما أذكره ما يفيد القيادة التربوية في سعيها المشكور للنهوض بالتعليم، وإتماماً لما ذكرته أقول: إن العلاقات بين الناس - في عالم اليوم - أكثر تعقيداً وتشابكاً مما كانت عليه قبل عشرين سنة، فضلاً عن ان تقارن بما كنا عليه قبل نصف قرن من الزمان. لقد كان الناس في كثير من مدننا - فضلاً عن قرانا وباديتنا - ينظرون إلى الغريب نظرة مغايرة لنظرتهم إلى بني جنسهم أو بلدهم، ولم يكن هذا الغريب يظهر إلاّ نادراً، وكان في الغالب زائراً عارضاً أو ماراً مرور الكرام في طريقه لأداء حج أو عمرة أو زيارة. *** واليوم تعج بلادنا - لما حباها الله به من فضل - بمئات الألوف من غير أبنائها، وهؤلاء فيهم المسلمون، وغير المسلمين، وغير المسلمين كلهم دخلوا بأمان من إمامها وحكومتها. وللإسلام أحكامه الأساسية ولفقهائه وعلمائه تفصيلات كثيرة في شأن معاملة المسلمين فيما بينهم، وفي تعاملهم مع غير المسلمين ولا يجوز ان تغفل مناهج التربية الدينية إعداد الطالب لحقائق الحياة في هذه الأمور. *** ولا يصح ان يخرج الطالب من مرحلة الدراسة العامة وهو لا يدرك ما يجوز له وما لا يجوز من أحكام التعامل مع الآخرين والعلاقة بهم. وقد يكون في الفقه رأيان، أحدهما يتسم باتباع روح السماحة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية حتى وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها «حنيفية سمحة» وأراد ان تعلم يهود ان «في ديننا فسحة» والثاني يتجه إلى التشديد أو التشدد الذي بعثت عليه أو دعت إليه ظروف محلية أو وقتية عاشها الفقيه، أو ألف، أو أفتى مجتهداً في ظلها. *** والذي أراه ان المناهج يجب ان تقف مع الرأي والاجتهاد الذي يفسر الأدلة الشرعية متخذاً سناده روح السماحة الأصيلة في بناء الدين نفسه وهي روح دلت عليها نصوص لا تحصى من الكتاب الكريم والسنة المطهرة. ويجب بالتالي تنقية المناهج من الآراء التي تنحو نحواً لم يدفع أصحابها إليه إلاّ ظروف مكانية أو زمانية ينتفي تأثيرها في الفتوى والاجتهاد بانقضائها. وهذه المسائل هي موضوع تخصص العلماء والفقهاء، ولا ينبغي ان يشغل بذكرها وتعلمها طلاب التعليم العام، إلاّ بالقدر الذي يخدم الهدف العام لتشرب روح الدين الإسلامي عند الطلاب. *** وقد ألف كثير من العلماء في أساسيات الدين، وألف بعضهم فيما لا يجوز الخلاف فيه بين المسلمين. والخلاف في الفروع الاجتهادية أصل محتمل وقاعدة العلماء سواء أكانوا من المذهب القائل بتصويب كل مجتهد أم كانوا من المذهب القائل بتصويب واحد، وان الباقين يؤجرون على اجتهادهم وإن أخطأوا، قاعدة الجميع: ان الخلاف في الفروع الاجتهادية لا تثريب فيه على أحد، ولا يجوز للمجتهد ان يحمل غيره من المجتهدين أو اتباع غيره من المجتهدين على ما يراه صواباً، ولهذا قالوا: «لا يعترض بمذهب على مذهب». *** وتعليم الطلاب في مراحل التعليم العام كلها يجب ان ينحو هذا المنحى؛ حتى تتشبع نفوسهم باحترام الآخرين. وتقديرهم، وينظروا إلى الخلاف وإلى المختلفين عنهم - أو معهم - نظرة صحية تتفق مع الخلق الإسلامي الحميد. *** ويترتب على اتباع النهج السالف ذكره في التأليف والتعليم ان ينشأ الطالب على أساس صحيح من التفتح الذهني، والمرونة «الفكرية» والقدرة على تقبل وجود الآخر والعيش معه والعمل إلى جواره. وقد أصبحت هذه ضرورات لازمة لحياتنا في طورها الحالي؛ فنحن لا نستطيع العيش في عزلة عن الدنيا، ونحن نحتاج في تطوير بلادنا وتحديثها إلى خبرات وطاقات من العالم كله، وأبناؤنا يسافرون إلى كل أركان الأرض طلباً للعلاج أو العلم أو الرزق أو الراحة أو غير ذلك من الأغراض، وكل هذه الصور من التواصل البشري نتعرض فيها إلى أناس غيرنا لابد - كي نحسن الافادة منهم والافادة لهم - ان يقوم تعاملنا معهم على قاعدة الاحتمال والقبول للغير والتفهم لأساس تكوينه الذي يؤدي في النهاية إلى اختلافه عنا واختلافنا عنه، ثم برغم هذا الاختلاف نحن نعمل معاً ونعيش معاً، ولابد لصلاح ذلك من تأصيل معنى قبول الاختلاف في نفوس أبنائنا وعقولهم. *** إن التربية الدينية ليست قسيماً مغايراً لمناهج التربية الأخرى، ولا هي في فروعها المتعددة قسائم متنافرة لكل منها مجاله ونطاقه. ولكنها في الحقيقة كل متساند يقوم بعمل خاص بين أعمال أخرى تقوم بها المناهج النظرية والعلمية والعملية لتخرّج لنا جميعاً إنساناً صالحاً، ومواطناً مؤمناً كما تقول سياستنا التعليمية. *** وقد يكون مما يسهم - دون قصد - في تشتيت الفكر، وإبراز الفوارق، وتجاهل مواضع التشابه والتكامل تقسيم منهج التربية الدينية إلى قرآن وتجويد وتفسير وحديث وفقه وتوحيد ثم فصله عن المناهج المتعلقة به مثل مناهج اللغة العربية ومناهج التاريخ، وعلى الرغم من مزية تعريف الطلاب بتنوع المعارف الإسلامية وانقسامها إلى علوم تخصصية فإن عدم مراعاة تكامل المعارف التي تقدم من خلال كل مقرر مع ما يقدم في المقررات الأخرى، وعدم الإيحاء إلى الطالب بتساند هذه العلوم في صناعة «المعرفة الإسلامية» المتكاملة يفقد هذه المزية أهم آثارها وأنفع نتائجها. *** ولن يتحقق النفع الكامل من هذا التنوع إلاّ إذا أعيد اختيار مفردات مقرر التربية الدينية وروعي في صياغتها هذا المعنى - معنى التكامل والتساند - ونظر مع ذلك إلى المقررات الأخرى المتصلة بها مثل مقررات اللغة العربية والتاريخ - وربما الجغرافيا، وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها - نظرة فاحصة هدفها ان يكون بينها جميعاً من التوافق والاتساق ما يشعر الطالب بوحدة المعرفة الإنسانية بالرغم من تنوع مصادرها وحقولها واهتماماتها. *** ولذلك فإنه قد يكون مناسباً ونحن نبحث في سبل تطوير هذه المناهج ان نفكر في تحويلها إلى منهج يكمل بعضه بعضاً تحت عنوان جامع وهو التربية الدينية أو التربية الإسلامية أو أي عنوان آخر مناسب، نجمع تحته متفرقات المناهج الحالية، وتكون صياغتها متكاملة بعضها مع بعض، بحيث يجد القارئ - الطالب - فيها مصدر الحكم الفقهي من القرآن والسنة ومصدر القاعدة العقيدية منها، وأثر كل واحد من هؤلاء في الآخر واضحاً محدداً بحيث تدرك النفس في سن الطالب الصغيرة نسبياً حاجتها إلى «الدين كله» لا بعض فروعه دون بعض كما قد يكون حادثاً الآن. وإيضاح ذلك ان الطالب اليوم قد لا يجد نفسه محتاجاً في حياته العملية غداً إلى شيء مما درسه دراسة نظرية في التفسير أو في علوم القرآن أو في التوحيد تلك التي درسها بمعزل عن الأحكام العملية المرتبة عليها، إما لأن معاني ما درسه مستقرة في نفسه منذ صغره، ومستقرة في وجدانه بالاقتناع الفطري، أو بالتلقي المستمر المباشر من الآباء والأجداد، وإما لأنه ليس من أهل التفكير في هذه المسائل وعلومها. ولكنه إذا درسها مرتبطة بأحكام الحلال والحرام، والمندوب والمكروه في الفقهيات التي سنختار له ان يدرسها فإنها لن تبرح ذهنه، ولن يستشعر أنها عبء زائد على طاقته الاستيعابية يدرسه دون ان يكون له عائد مفيد أو ذو قيمة في حياته العملية. *** ولا يقل أهمية عن جميع ما تقدم ان تكون لغة المادة المختارة للتربية الدينية لغة داعية إلى التفكير والتأمل، لا لغة داعية إلى الاستظهار والحفظ. إن الذي يحفظه الطالب لأداء اختبار فيه يذهب عنه فور انتهائه من أداء اختباره، أما الذي يستثير فيه كوامن الفكر، وقدرات العقل وممكنات النظر، ويعلمه الصواب والأصوب، والحسن والأحسن، كما يعلمه الخطأ اليسير المغتفر والخطأ الجليل الذي يجب ان يحذر.. مثل هذا لا ينسى ولا يهمل لأنه يتحول في النهاية إلى عادة محمودة في التعامل مع كل المواضيع في الحياة، وإلى أسلوب تفكير يهتدي به صاحبه في مواجهة كل مشكل يتعرض له. وهذا الهدف - على جلالته - لا يحتاج إلى أكثر من بذل العناية اللازمة له في صياغة مفردات المناهج وشروحها والأسئلة التي تلحق بكل جزء منها. ثم يكون الدور الأكبر للمعلم النابه الحريص على أبنائه ان يصرف جهده إلى تربية ملكة التفكير والمحاورة العقلية في طلابه، مهتدياً بالمنهج الذي بين يديه وقد عهد به إليه ليهيئ عقول الطلاب على وفقه، لا ليلقنهم أجزاءه وتفاصيله حتى يحفظوها عن ظهر قلب. *** ولأن الموضوع متشعب الجوانب، فإني سوف استكمل رؤيتي عن أهم مكونات المنهج التعليمي، وهو مناهج التربية الدينية.. ولعل القارئ الكريم - بعد ان تكتمل هذه الحلقات - يتبين له ان الاعتراض الشديد الذي منع تطبيق تلك الأفكار لم يكن له مسوغ ديني، أو تربوي والقيادة الحالية للتربية والتعليم في انطلاقتها التجديدية تستحق المباركة والمساندة الواعية والمباركة من المجتمع التي تشد عضدها، وتعينها على تطوير المناهج كافة، والتربية الدينية خاصة. يتبع... *** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.