انا من الذين يشعرون بعتب على المجتمع وخاصة رجال التعليم في المراحل الدراسية الأولى ووسائل الإعلام لعدم تركيزهم على تذكير الناشئة بالمناسبات الإسلامية الخالدة، وعندما تمر بنا هذه الأيام ذكرى الهجرة النبوية الشريفة نحس بأن من واجبنا جميعاً ان نهتم بمثل هذه الذكريات؛ لأنها اعظم حدث بعد نزول القرآن، وهي ذكرى تستحق ان نقف عندها نتعلم منها الدروس ونعلمها لأولادنا، فقد تمت بإذن من الله بعد ان ضاق الخناق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن صبر واحتسب، وكافح وجالد حتى بلغ السيل الزبى، وحتى كان ذلك اليوم الحزين، والشهر الحزين، والعام الحزين، الذي سمي بعام الحزن، بعد وفاة عضدين كريمين وقفا معه، وايداه ونصراه ودعماه، وهما السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وعمه ابوطالب. ومن هنا نشعر بأن من واجبنا ان نقف لحظات ونتدارس ابعاد هذه الهجرة الشريفة، ولنتعلمها ونعلمها لأولادنا، ونجعلها نبراسا تهتدي به الأمة، ففي هذه الهجرة دروس عظيمة تستحق الوقوف عندها، وعلى مر التاريخ فإن الراسخين في العلم والفهم كانوا دائماً يحرصون على اغتنام فرص المناسبات الإسلامية وفي مقدمتها الهجرة النبوية ليقفوا عندها ويتدبروا اسرارها ومعانيها، ثم ليستفيدوا من كل تلك الجوانب العطرة في السيرة النبوية الشريفة في هذا المجال، وذلك لأن هذه الدروس تساعد على تتبع جوانب السيرة النبوية العطرة، وأخذ الدروس منها والتعرف عليها وتعلمها ومتابعة احداثها ومن ثم تعليم أولادنا وتلاميذنا ومن حولنا جوانب من تلك الاسرار في مثل هذه المناسبات العظيمة. ولاشك ان الهجرة النبوية الشريفة لم تكن تحركاً عشوائياً، ولم تكن هروباً، ولكنها كانت نقلة استراتيجية عظيمة اراد المولى عز وجل بها حماية الدعوة بعد ان اشتد الضغط، وكثر الأذى، وازدادت المؤامرات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى اتباعه في مكةالمكرمة، وأمعنت قريش في الظلم والتعدي والتعرض له صلى الله عليه وسلم، ولصحابته الكرام، فجاء الإذن بالهجرة. وقد فرح الرسول صلى الله عليه وسلم باختيار الله عز وجل المدينةالمنورة ان تكون هي مقر الهجرة، وتحول اسمها من "يثرب" إلى المدينةالمنورة، ومن عوامل فرحه صلى الله عليه وسلم انه قد أحب اهل هذه المدينة عندما لقي بعضهم قبل الهجرة وارسل معهم مصعب بن عمير يتلو عليهم القرآن ويعلمهم الإسلام بعد بيعة العقبة الأولى، وكذلك في المدينة أخواله من جده من بني النجار، وهذا مازاد ارتياحه وجعله يأنس للذهاب إلى هذه المدينة الطيبة الطاهرة، ويلقى اولئك الرجال والنساء الذين استقبلوه فرحين بقدومه وعوضوه عن قسوة الأهل في مكة (وظلم ذوي القربى أشد مضاضة). وكف الله عنه بهذه الهجرة تسلط قريش وغطرستهم وكبريائهم وأذاهم. ومن القضايا المهمة التي لابد ان نتدبرها في قضية الهجرة ان الرجال الذين هاجروا معه والنساء اللاتي هاجرن بعد ذلك، على الرغم من انهم كانوا قلة وضعفاء الا انهم كانوا اقوياء بايمانهم وصبرهم واحتسابهم، وقد اعانهم الله وأكرمهم وكرمهم ورفع من شأنهم. وهناك عامل مهم وهو أن المدينةالمنورة كانت قد بدأت تستقبل الإسلام ودخل في دين الله عدد من أهل المدينة وكان هذا الأمر مهمًا وشجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على التوجه إلى المدينةالمنورة بأمر الله وتوجيهه عزوجل وتدبيره، أضف إلى ذلك أنه في ذلك الوقت كان لها دور أساسي باعتبارها مركزاً حضارياً من الناحية التجارية ومن الناحية الزراعية، وكانت مدينة تعج بالحركة والنشاط بالإضافة لكونها ملتقى القوافل التي كانت تمر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام، وهذا أيضاً جعلها مؤهلة أن تلعب دوراً أساسياً بالنسبة لانتشار الدعوة الإسلامية، ومن العوامل الأخرى المهمة ما أتسم به أهل المدينة من مروءة ومن رجولة حتى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قولته المشهورة:«لولا الهجرة لكنت امرءاً من الانصار». ولاشك ان من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المدينة ان دعا لها وحرم ما بين لابتيها. عندما قال صلى الله عليه وسلم. 1- «اللهم إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة (متفق عليه من حديث عبدالله بن زيد رضي الله عنه). 2- «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور» (متفق عليه من حديث على رضي الله عنه). إلى غير ذلك من النصوص. ومن ينظر في قصة الهجرة وترتيباتها يحس بابعاد ذلك التخطيط الدقيق الذي سبقه التوكل والعزيمة والامتثال لأمر الله عز وجل ثم تلاه الأخذ بالأسباب، فهذا أبوبكر الصديق رضى الله عنه يتشوق للهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى التريث حتى جاءت اللحظات الحاسمة التي أدرك فيها أبوبكر الصديق أن الوقت قد حان وأن الصحبة حاصلة وأن الهجرة قد أذن بها الله عزوجل. ولاشك ان حادثة الهجرة النبوية تعلمنا كيف مهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الهجرة ثم خطط لها باختيار الوقت المناسب والطريق المناسب وتضليله المشركين عندما طلب من سيدنا علي بن ابي طالب البطل المغوار ان ينام في فراشه، فهذه التنظيمات من كتمان تام لخبر الهجرة، واختيار ملائم للتوقيت، وسلوك طريق غير الطريق الذي تألفه قريش، كل هذه الأمور تعلم الأمة أهمية التخطيط في حياتها، وأهمية التنظيم والشورى والتعاون، ثم العزم والتوكل على الله وان الله مع المتقين. هذه إذاً لمحات من الهجرة ولاشك أن من الواجب أن نحرص كل الحرص على تعلمها والوقوف عندها وتعليم أولادنا اسرارها وتأريخها وعظيم امرها، فهي درس عظيم وتاريخ خالد. وختاماً فإن ما نتمناه جميعاً ان نتعلم من الهجرة تلك الدروس العظيمة ونعلمها للأولاد بنين وبنات، وان نقف ولو للحظات في كل مناسبة خالدة تمر بنا وقفة تأمل وتذكر لأخذ الدروس والعبر. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل