هناك رصدٌ بلا شك في الصحف ووسائل الإعلام والمعاهد والجامعات الأميركية لتصاعد التطرف الاسلامي، ولكن هناك في الوقت نفسه إحجام مطلق يوحي بأنّه مقصود عن البحث في أسبابه وعناصر تكونه، بل ورصد علاقته وجذوره في مناطق الوجع العربي والاسلامي الاكبر حيث هي في بلاد المنشأ في فلسطين المغتصبة على الخصوص، وفي الديار المقدسة التي خرج منها الاسلام. أحكام متوالية ومتسرعة في وسائل الاعلام الأميركي والأوروبي على أفغانستان وباكستان وغيرهما في بلاد آسيا وافريقيا بأنّها متطرفة، أما لماذا هي متطرفة ومن أين جاءها هذا التطرف فالتشخيص هو أنّها كذلك لأن الاسلام متطرف لا لأنّ هذه الشعوب تشعر أنّها مظلومة أو مسدودة الدروب في وجهها. تكاد أهمية تقريرالقاضي الدولي ريتشارد غولدستون تكون ناتجة عن كونه كشف في احدى المرات الغربية القليلة عن وجع فلسطيني - عربي مشروع ناتج عن ظلم تاريخي بحق قوم هم الفلسطينيون العرب على أيدي غزاة لبلادهم وافدين من شتى نواحي الأرض يأخذونها بالقوة من أهلها وعلى حساب مقدسات هؤلاء الأهل الاسلامية - المسيحية منذ كانت المسيحية والاسلام. ففي البدء كانت المظالم على العرب لتظهر آثارها وتجلياتها في مابعد في كل مكان من أفريقيا وآسيا. ليست فلسطين أرضا بلا شعب لكي تُعطى لشعب بلا أرض، وما المعركة المفتوحة على القدس الا أم المعارك وقد أعلنتها اسرائيل هذه المرة مستفيدة من وجود شرعيتين فلسطينيتين واحدة منطلقة من رام الله ورأسها الفتحاوي محمود عباس وثانية من غزة بقيادة حماس. وحده العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز كان منذ زمن الرائي البعيد النظر لما يمكن أن تؤول اليه أوضاع القضية الفلسطينية عندما دعا في المملكة الى لقاء بين قادة حماس وفتح. كان من شأن هذا اللقاء لو نجح الطرف الفلسطيني والطرف الأميركي في تلقف فرصة ذلك اللقاء للاتفاق على صيغة حل لائق وقابل للحياة على أرض فلسطين ان يغيّر الى حد بعيد وجه هذا العالم سواء في شقه الدولي العالمي أو الاسلامي، ولجاء وصول الرئيس باراك أوباما الى السلطة في الولاياتالمتحدة عنصر تعزيز وتثمير كبيرين للعلاقات الدولية قابلة الاستمرار والتجذر سواء على صعيد القارات أو الأديان. فما يجري حاليا على سبيل التحديد في أفغانستان وباكستان كافٍ وحده دليلا على وجود عجز داخل العقل الدولي الغربي المسيطر عن التعامل الحكيم والجدي مع الاسلام يعكس نفسه منذ زمن غير قصير على ذلك الجانب المهم والمليء بالامكانات من العالم الآسيوي. واذا كانت في آسيا البعيدة ظواهر قلق وغلو فان جزءا كبيرا من أسباب ذلك ناتج عن ما يلقاه الاسلام بل والمسيحية العربية ايضا في فلسطين على يد اسرائيل فالصهيونية تزداد بغيا وتطرفا في فلسطين متحدية لا مشاعر العرب والمسلمين داخل القدس وغيرها فقط بل مشاعر المسلمين في كل آسيا وأفريقيا والمغتربات حيثما كانوا. وهناك بلا شك قصور في العقل الدولي الحاكم حين لا يدرك هذا العقل ان التطرف في أقصى آسيا وأعماق أفريقيا سببه الى حد بعيد ما يلقاه المسلم في فلسطين والبلاد العربية من مظالم ؛ فالتطرف الاسلامي حيثما كان هو الى حد بعيد وليد المظالم التي يلقاها الفلسطيني والعربي على أيدي الصهاينة في القدس وغيرها. ان العالم العربي وما يعانيه على يد اسرائيل وغيرها هو العامل الاكثر تأثيرا على توجهات البلاد الاسلامية والقارتين المضطربتين آسيا وافريقيا، وتصرفات الولاياتالمتحدة لا تدل على فهمها لهذه الحقيقة ؛ فتأثيرات الصهيونية على توجهات واشنطن تبدو ناجحة في الاقلال من اهمية الموضوع الفلسطيني وتأثيراته القوية في الدول والشعوب. ان الجرح الفلسطيني على يد اسرائيل هو ما يصنع التطرف الاسلامي في افغانستان وغير افغانستان وليس العكس. واذا كانت هناك قراءة اميركية علمية لما يجري فهي يجب ان تبدأ بان مشروع صهينة فلسطين هو في اصل "الافغنة" التي تشكو منها الولاياتالمتحدة في آسيا. واسرائيل هي صانعة التطرف الاولى في الشرق والغرب عند اعدائها واصدقائها على حد سواء. ان فلسطين التي تعمل اسرائيل على شطبها من الخريطة ترسل بإرادة منها وغير إرادة مؤشرات الى كل مكان من العالم على الظلم الذي تمارسه اسرائيل على الانسان الفلسطيني والعربي ومقدساته كما ترسل غضبا مشروعا على السياسة الدولية التي تتساهل مع إسرائيل بل وتشجعها عندما تفعل مثل هذه الأفعال. ان ما لقيه العرب المسلمون وغير المسلمين على يد اسرائيل ترك آثاره في كل البلدان الآسيوية والأفريقية وغيرها، ليجعلها في كثير من الحالات أشد تطرفا وأوضح في العداء لأقوياء العالم وأصحاب القرار من المسلمين وغير المسلمين من العرب. فهذا العامل العربي موجود دائما بل هو يتجلى في بعض ردود الفعل التي تظهر في بلدان اسلامية غير عربية في أشكال أكثر حدة مما تبدو في البلاد العربية، وذلك لأن البلاد العربية لها وضع خاص بالنسبة لدول الاسلام في كل مكان لأن القرار عربي والنبي محمد عربي وبلاد العرب مهبط الوحي ومنطلق الاسلام. نقول هذا وأحداث القدس تفعل فعلها في البلاد الاسلامية بأكثر مما يدرك الكثيرون من الغربيين والشرقيين المسلمين وغير المسلمين. ان الغرب يدفع في كل مكان ثمن ما ينزله بالبلاد العربية من مظالم ؛ فالجرم الذي ينزله مستعمر أو مستبد ببلد عربي يتلقاه بأشد السخط كل مسلم قريب أو بعيد، فالاساءة الى أرض محمد مهبط الوحي تشعل نار الغضب على المسيء في كل أرض. قوى الاستكبار الغربي نادرا ما تحسن قراءة الظواهر فتتحدث عن التطرف العربي والاسلامي هنا وهناك. إن الجراح التي تتفتح في أفغانستان وباكستان وغيرهما في آسيا وأفريقيا انما جذورها في ما نزل وينزل بالمسجد الأقصى وغيره من أراضي العرب والمسلمين المقدسة من انتهاكات وما يسميه الغربيون تطرفا اسلاميا في آسيا وأفريقيا انما هو صادر بالأصل عن تحسس بالظلم الذي لحق بالمقدسات الاسلامية والمسيحية في القدس والديار العربية عامة منذ اعتبرت الصهيونية وتوأمها الاستعمار أن فلسطين أرض بلا أهل ينبغي أن يسلمها الاستعمار الغربي للصهاينة. كان من جملة الأسباب التي تفاءلت بسببها أوساط أميركية واسعة بوصول أوباما الى الرئاسة المراهنة على قدرته في إعطاء قراءة سياسية جيدة لأسباب نمو التطرف الاسلامي في كل من آسيا وأفريقيا؛ فالسمرة في بشرته ومستواه الثقافي الأكاديمي جعلا منه معقد آمال عند أوساط واسعة في الولاياتالمتحدة وغيرها بأنّه سيكون خير قارئ لظاهرة التطرف هذه حيثما وجدت، وبالتالي الطبيب المداوي. ساهم مجيئه الى القاهرة بعد مدة وجيزة من وصوله الى الرئاسة وإلقائه خطبة في احدى جامعاتها في اعطاء فكرة عنه بأنّه سيكون معنيا بوضع مخطط للحد من التطرف الديني حيثما وجد فهو موضوع لم يعطه سابقوه في الرئاسة الأميركية حقه. مرت بعد ذلك الشهور والأيام ولم يظهر دليل على وجود مقاربة فعّالة عنده لمواجهة هذه الظاهرة وخاصة وضع اليد على عوامل تسعيرها حيثما هي. لقد نجحت الصهيونية في تحويل نظر الغرب الاستعماري عن أفعالها وجرائمها ازاء الفلسطينيين العرب لتصور نفسها بصورة الحمل الوديع العائد الى أرض أجداده في فلسطين التي طردهم منها العرب كما فعلوا في السابق مع الفرنجة في الحروب الصليبية فما الصهيونية ولا الحروب الصليبية - في نظر الغرب - الا ظاهرتان شرعيتان لاسترداد الأرض التي كان العرب المسلمون والمسيحيون قد أخذوها من أهلها أصحاب الحق فيها أكانوا فرنجة أو يهودا صهاينة! إن أخطر ما في الصهيونية أنّها كانت تنظيرا وتزويقا لكل محاولة أجنبية لأخذ فلسطين من أهلها العرب مسلمين ومسيحيين على حد سواء. وأخطر ما فعلته وتفعله هي تصوير الاستعمار الغربي والصهيونية أنّهما أخطر سلاح في وجه فلسطين العربية والمنطقة بإسلامها ومسيحييها على حد سواء. ان أهمية بعض المسيحيين العرب الكبار كميشال عفلق ومكرم عبيد وادوار سعيد أنّهم كشفوا من موقع الواقعية والمثالية معا، عن أبعاد هذه المؤامرة الصهيونية على فلسطين وعلى المسيحية والاسلام معا، ذلك أن أبشع وأمكر ما في الصهيونية هو توجهها بالعداء للمسيحية العربية أولا ومحاولة تصويرها بأنّها تخوض بعدائها للصهيونية معركة المسلمين العرب، منطلقة من حقدها الخاص على هذه المسيحية العربية التي وقفت في وجهها في كل مكان في الغرب والشرق على حد سواء وفي ميداني السياسة والثقافة معا. وقد سبق لبعض الصهاينة أن شنّوا حربا قاسية ضد السياسي المصري الكبير مكرم عبيد الذي صرّح مرة قائلا أنا مسيحي ديناً ومسلم وطناً، محاولة اعطاء هذه العبارة غير معناها الوطني الجمعي بين الاسلام الوطني والمسيحية الوطنية في معركتهما الواحدة ضد المستعمر البريطاني والخطر الصهيوني على حد سواء. ولم تحارب الصهيونية تكوينا وطنيا جامعا في المنطقة كما حاربت الميثاقية اللبنانية وقد صب كتابها نار غضبهم على المفكر اللبناني ميشال شيحا لتعريته الكاملة للفكر الصهيوني وعدوانيته الخاصة للمارونية والأرثوذكسية الكنيستين الشرقيتين الكبريين في لبنان. وقد كان رئيس الجمهورية اللبناني شارل حلو هدفاً هو الآخر للكتابات الصهيونية التي قالت إنّه عمل لأن يكون سفيرا للبنان في الفاتيكان ليؤمن الفعالية لفكره المعادي للصهيونية والمنحاز للتفاهم الاسلامي والمسيحي في لبنان على قاعدة الميثاق. والأكيد أن الصهيونية لم تحقد على قطر عربي كما حقدت على لبنان الذي وجهت اليه سهامها محاولة تكذيب المقولة الواردة في أول بيان وزاري لحكومة رياض الصلح الاستقلالية القائل إن لبنان وطن مستقل سيد عربي الوجه يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب زاعمة أن مثل هذا الكلام لا يخدم لبنان المعطوف عليه من الغرب بقدر ما يخدم حكّامه المتطرفين الفرحين بإخراج الانتداب الفرنسي من لبنان. وقد قال الرئيس شارل حلو أنّه أثناء عمله سفيرا للبنان في الفاتيكان لمس حقدا صهيونيا على هذا الوطن ربما لا يعادله حقد على أي وطن عربي آخر. ذلك انه كان من صلب دعاية الصهيونية لدولتها في فلسطين القول ان المسلم يرفض كل آخر مسيحيا كان او يهوديا او بوذيا، وقد رأت في الصيغة اللبنانية ونجاحها في جمع المسلمين والمسيحيين في دولة لبنانية عربية منفتحة وذات دور ، ضربة قوية لاحد مبررات وجودها.