لقد تناولنا في مقال الأمس ضمن موضوع النظام الاقتصادي والمالي ما بعد الأزمة، الشق الأول الخاص بالتغييرات المتوقعة على صعيد النظام الاقتصادي العالمي. في مقال اليوم سوف نركز على الجوانب الخاصة بالمتغيرات على صعيد القطاع المالي والمصرفي. ثانياً:التغييرات والمراجعات المتوقعة على صعيد النظام المالي والمصرفي على صعيد القطاع المالي فلا بد أيضاً أن تخضع ممارساته على ضوء الأزمة لمراجعات هامة سواء تعلق الأمر بالوضع الرقابي أو السياسات الرقابية أو الشكل الرقابي، فحسبما يبدو فإن كل هذه الأمور ستخضع لمراجعات هامة من المتوقع أن تؤدي إلى وضع مختلف وقد يكون جديداً للممارسات المتبعة في القطاع المالي مقارنة مع ما هو سائد حتى الآن. على صعيد القطاع المصرفي يبدو بأن التغييرات المتوقعة على أثر هذه الأزمة قد تكون الأهم خاصة فيما يتعلق بمعدلات كفاية رأس المال، مستويات المديونية ومعدلات السيولة إضافة إلى إمكانية مراجعة موضوع الفصل في التخصصات المصرفية ومحاولة التحكم وتقنين نشاط التوريق والتمويل من خارج الميزانية إضافة إلى التأكيد على ضرورة التناسب في الآجال بين الأصول والمطلوبات. فعلى صعيد القطاع المالي والمصرفي بالتأكيد إن المراجعات والتساؤلات حول الممارسات السائدة ستكون حسبما يبدو أكثر حدة وقد تكون أكثر سرعة للحاجة إلى التوصل لنتائج مرضية في أقرب فرصة ممكنة لكون هذه الأزمة هي في الأصل بسبب الممارسات المالية والمصرفية السائدة. وبالطبع فإن الجانب الرقابي للأنشطة المالية والمصرفية متوقع أن يشهد مراجعات هامة على ضوء تداعيات الأزمة المالية. هناك حسبما يبدو كثير من جوانب الرقابة المالية والمصرفية التي أصبحت تشهد منذ فترة تساؤلات هامة وسنحاول التطرق إلى البعض منها على سبيل المثال لا للحصر. (1)هل سيتم وضع رقابة وتحكم حول تحرك الأموال المضاربية أو الأموال الساخنة؟ هذا التساؤل أصبح مطروحاً في كل من الدول النامية والدول المتقدمة على حد سواء. اجتماع مجموعة العشرين الأخير في اسكتلندا لمّح إلى هذا التوجه وفي بعض بلدان الدول النامية مثل البرازيل بدأ التطبيق الفعلي لهذا التوجه بفرض 2% ضريبة على الأموال الأجنبية المستثمرة في الأوراق المالية. بعض دولنا العربية أيضاً قد تعرضت لحركات سريعة ومزعجة لهذه الأموال الساخنة الأمر الذي يشير بأن هذه الظاهرة أصبحت تشكل هموماً مشتركة لكثير من دول العالم نتيجة لتداعيات الأزمة المالية. وحتى ضمن هذا التوجه فلا بد أن يكون هناك تمييز بين الاستثمارات المباشرة المرحب بها وبين الاستثمارات غير المباشرة التي عادة ما تكون غير مستقرة وتتصف في حالات كثيرة بالمضاربة. (2)الأزمة المالية ستعيد النظر أيضاً في موضوع الفصل بين السياسة النقدية والرقابة المصرفية حيث قبل نشوب الأزمة كان مثل هذا المنهج يمثل حسبما يبدو أسلوباً متقدماً في إدارة القطاع المالي والمصرفي إلى درجة أن كثيراً من الدول كانت تدرس الاقتداء بمثل هذا المنهج. أعتقد أنه على أثر هذه الأزمة وبخاصة ما حصل في بريطانيا بسبب تعثر مصرف نورثرن روك فإن هذا الأسلوب لم يعد بعد مغرياً أو منصوحاً به كما كان عليه الحال قبل الأزمة ولا أستبعد حتى أن تعيد بريطانيا النظر في هذا الموضوع. (3)أتصور أن إعادة النظر قد تكون واردة أيضاً على ضوء هذه الأزمة فيما يخص موقف البنوك المركزية من أسعار الأصول وبخاصة العقار والأسهم حيث أن الموقف حتى حدوث الأزمة يقوم على أن مسؤوليات البنوك المركزية تتركز في تحقيق استقرار الأسعار Price Stability من خلال مكافحة التضخم ولا تدخل تقلبات أسعار العقار والأسهم ضمن هذه المسؤوليات، إلا أنه على ضوء هذه الأزمة وما أدت إليه فقاعات الأسهم والعقار من أعباء على البنوك المركزية فقد يكون الأمر الآن مختلفاً وقد يعاد النظر في موقف البنوك المركزية من أسعار الأصول وفقاً لذلك. (4)قد تكون هناك أيضاً إعادة نظر في موضوع الفصل بين التخصصات المصرفية حيث بعد أن مر العالم بفترة من الفصل بين الصيرفة الاستثمارية والتجارية ثم أعيد النظر في هذا الأمر حيث تم دمج مختلف الأنشطة المصرفية فيما يعرف بالصيرفة الشاملة إلا انه مؤخراً وعلى ضوء الأزمة المالية أصبح هناك من ينادي بالتفكير جدياً في الفصل من جديد على أساس بنوك تقوم بالأنشطة المصرفية التقليدية التي قد تنحصر في قبول الودائع وتمويل الاقتصاد Utilities Banking وبالتالي يمكن للدولة دعمها في وقت الحاجة وبين بنوك أخرى مستعدة للتعامل في منتجات مصرفية أكثر مخاطرة وبالتالي تتحمل بنفسها مسؤولية نتائج أعمالها بشكل يجعل الدولة في حل من مساعدتها أو إنقاذها في حال تعثرها. (5)فيما يخص معدل كفاية رأسمال المصارف فعلى ضوء تداعيات الأزمة وجدنا بأن المعدلات المتعارف عليها لم تكن كافية لمواجهة ما تعرضت إليه المصارف من صعوبات خلال الأزمة، لكن حتى الآن لم يتضح بعد نوع المعالجات التي يمكن أن يستقر عليها الرأي في هذا الشأن. فمن ناحية من الضروري بمكان عند تحديد معدل كفاية رأس المال المناسب أن تتم معالجة ظاهرة ال procyclicality بشكل أنه يمكن زيادة معدلات كفاية رأس المال في حالة الرواج الاقتصادي وتخفيضه في حالة تباطؤ الاقتصاد. لكن لا بد في مثل هذه المعالجات أن تكون انتقائية أي لا يطبق نفس معدل كفاية رأس المال على جميع البنوك بغض النظر عن درجة مخاطر الأنشطة التي تقوم بها كل منها. هناك بالطبع جوانب أخرى مالية مصرفية نتوقع أن تأخذ مزيداً من الاهتمام على ضوء تداعيات الأزمة المالية. من هذه الأمور أن التحكم في السيولة الزائدة لا ينبغي أن يعتمد فقط على التحكم في عرض النقود ولكن يحتاج الأمر أيضاً إلى ضبط حجم الائتمان. كذلك الأمر فيما يتعلق باعتماد المصارف على أموال قصيرة الأجل لتمويل أنشطة ذات آجال متوسطة وطويلة الأجل وعلى الرغم من أن مثل هذا الأمر يتعارض مع أبسط التقاليد والأعراف المصرفية المعهودة، إلا أنه مع ذلك وجدنا خلال هذه الأزمة كثيراً من المصارف كما هو الحال في أزمة مصرف نورثرن روك البريطاني وكذلك كما هو الحال لدى بعض البنوك في المنطقة ان تم تجاهل وتجاوز هذه الأعراف المصرفية، الأمر الذي عرض مثل هذه المصارف إلى إشكالات ومشاكل فادحة الثمن. هل تكون هناك إجراءات جديدة إضافية لتجنب تكرار مثل هذه الممارسات؟ هذه من الأمور التي نعتقد بأنها وإن تكن من المسلمات إلا أنها حسبما يبدو تحتاج إلى مزيد من الضبط والانضباط في فترة ما بعد الأزمة. وسواء تعلق الأمر بالتغيرات المنتظرة على صعيد النظام الاقتصادي العالمي أو على صعيد القطاع المالي والمصرفي فإن قائمة التغيرات المتوقعة قد تطول أو تقصر وقد تتجاوز ما تم ذكره وقد تقتصر على بعضها . هذا كما أن الفترة الزمنية لحدوث مثل هذه التغيرات قد تكون سريعة أو بطيئة لكن بالتأكيد فإن الأزمة المالية ستحدث حتماً نوعاً من التغيرات للممارسات التي كانت سائدة سواء على صعيد العلاقات الاقتصادية الدولية أوعلى صعيد الممارسات المالية والمصرفية العالمية عاجلاً أم آجلاً. * المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي يعبّر هذا المقال عن وجهة نظر صاحبه ولا يعكس بالضرورة موقف المؤسسة التي ينتمي إليها.