على ضوء التداعيات المتسارعة للأزمة المالية العالمية واستكمالاً للمقال الأول الذي نشرناه مع بداية الأزمة في جريدة "الرياض" يوم الاثنين الموافق 2008/9/22، نود في هذا المقال الثاني إثارة عدة تساؤلات حول ما خلفته هذه الأزمة من تداعيات حتى الآن، وكذلك محاولة التطرق إلى الجوانب والأبعاد التي تثيرها هذه الأزمة على صعيد الممارسات المصرفية أو على صعيد تداعياتها على الاقتصاد العربي أو حتى على صعيد النظام الاقتصادي العالمي. صحيح أن الأزمة المالية الحالية لن تكون نهاية العالم لكنها بالتأكيد سوف تؤدي إلى إعادة تقييم وإعادة نظر ومراجعة كبيرة لكثير من الممارسات المالية والاقتصادية التي اعتبرت لفترة طويلة من المسلمات. إن المراجعة المتوقعة من جراء هذه الأزمة سوف تشمل جوانب كثيرة من حياتنا الاقتصادية حيث إنها لن تقتصر فقط على إعادة النظر في الممارسات المصرفية بما يشمل التمويل وتكاليف التمويل، بل أيضاً ستطال الرقابة المصرفية كما ستطال الاستثمار وحركة رؤوس الأموال وكذلك درجة تحرير الأنشطة المالية والاقتصادية ومستوى المديونية وحتى قضايا أخرى تتعلق بالمعايير المحاسبية. كذلك نعتقد بأن المراجعة التي ستترتب على هذه الأزمة سوف تتطرق إلى جوانب وأبعاد أشمل من القضايا التفصيلية المشار إليها حيث من المتوقع أن تثير التساؤل حول مدى ملاءمة النظام الاقتصادي العالمي وهل أن الاقتصاد الرأسمالي لا يزال يمثل نهاية التاريخ كما بشر به فوكوياما. هذا بالإضافة إلى إثارة التساؤل من جديد حول الأدوار الملائمة لكل من الدولة والقطاع الخاص في إدارة الاقتصاد. هذه المراجعات المختلفة هي في الواقع ما نعتقد بأنه يمثل التأثيرات الأكثر عمقاً لهذه الأزمة. وكما هو الحال في كل مرة يتم التطرق فيها للأزمة المالية ينبغي دائماً أن نتذكر أنها بدأت مع وبسبب أزمة الرهن العقاري التي تمثلت في شكل منح قروض لقطاع الإسكان بشكل مفرط ودون أن يستند بالضرورة إلى جدارة ائتمانية سليمة ومطمئنة. أي أن الأزمة مبعثها انفلات وتهور وعدم انضباط بأساسيات العمل المصرفي السليم. هذا كما فاقم من هذه المشكلة محاولات التحايل على إجراءات الرقابة المصرفية المعتادة من خلال التخلص من هذه القروض المشكوك في تحصيلها في شكل نقلها من ميزانيات البنوك وتحويلها إلى سندات تم تسويقها إلى كثير من المؤسسات المالية بعروض وعوائد مغرية. ولم تلبث هذه العمليات المصرفية أن واجهت مشاكل عند ارتفاع أسعار الفائدة في العام الماضي وبداية تدهور سوق العقار. لقد شهدنا على أثر هذه التطورات منذ صيف السنة الماضية كثيراً من البنوك المتورطة في هذه الممارسات والتي بدأت تكشف عن خسائر كبيرة نتيجة لهذه المشكلة التي أخذت تتضح فيما بعد بأنها مشكلة كبيرة طالت كثيراً من المؤسسات المالية في أمريكا وفي أوروبا وبقية دول العالم أيضاً. وكنتيجة حتمية للخسائر المالية التي تكبدتها هذه المؤسسات لم يعد فيما تبقى من رؤوس أموالها ما يسمح لها بمزاولة أنشطتها التمويلية المعتادة، الأمر الذي انعكس في شكل انكماش أعمال وتمويل هذه البنوك والمؤسسات، هذا بالإضافة إلى تخوف هذه المؤسسات من التعامل مع مؤسسات وبنوك أخرى قد تكون متورطة في هذه الأزمة بشكل قد لا يسمح باسترجاع تمويلاتها وقروضها. ومن هنا نشأت مشكلة نقص السيولة كما أدى ذلك إلى ارتفاع تكاليف التمويل والحصول على السيولة المطلوبة. وسواء تعلق الأمر بمشكلة الرهن العقاري التي تعتبر بداية هذه الأزمة أو ما ترتب عليها فيما بعد من أزمة سيولة فكل هذه الجوانب لا زالت تمثل أزمة أو خللاً في النظام المالي والمصرفي. إن نموذج التمويل القائم على أساس السياسة النقدية المتراخية وعلى الافتراض أن الأموال لا حدود لها وأن تكاليفها لا تذكر، أصبح هذا النموذج على أثر هذه الأزمة محل تساؤل لا بل إن الممارسات المصرفية في المرحلة القادمة سوف تبتعد كما يبدو عن هذا النموذج لتكون أكثر انتقائية وأكثر حذراً كما أن التمويل وفقاً لذلك لن يكون بالضرورة متوفراً بكثرة وإن توفر فإن تكاليفه سوف تكون على أعلى مما كانت عليه، الأمر الذي سوف يساعد على إدارة مخاطر الائتمان بشكل أكثر واقعية. كذلك فإن السلوك المصرفي في منح الائتمان الذي تكرر في عدة أزمات بشكل متهور في أوقات الرواج مما أدى إلى خلق فقاعات ما تلبث أن تنفجر محدثة كوارث اقتصادية لفترات، في بعض الأحيان، طويلة من الزمن. هذا في الوقت الذي يميل فيه هذا السلوك المصرفي إلى الانكماش والتقوقع في أوقات الكساد الذي تكون فيه الأنشطة الاقتصادية في أشد الحاجة إلى الائتمان. للأسف حتى اتفاقية بازل 2الخاصة بكفاية رأسمال المصارف والتي تعتبر حديثة نسبياً لم تعالج هذا الجانب بل إن لم نبالغ فهي تكرسه. ومن هذا المنطلق نعتقد بأن المراجعات القادمة للممارسات المصرفية ينبغي أيضاً أن تعيد النظر في هذا الموضوع وتضع له الحلول المناسبة. المسألة للأسف لم تتوقف عند هذا الحد وبالتالي لم تنحصر الأزمة في التصدع المالي بل سرعان ما تحولت هذه الأزمة إلى الاقتصاد الحقيقي حيث إنه من ناحية فإن التكاليف الباهظة لمعالجة وضع المؤسسات المالية المتضررة من هذه الأزمة سوف تنعكس في شكل عبء مالي كبير على الاقتصاد. هذا كما أنه من ناحية أخرى فإن تردد البنوك وتقلص قدرتها على الإقراض من شأنه أن يحرم كثيراً من القطاعات الاقتصادية الأخرى من التمويل المطلوب وبالتالي ينعكس ذلك في شكل انكماش للأنشطة الاقتصادية المختلفة التي لا يبدو بأنها سوف تفلت من تأثير هذه الأزمة الكبيرة. وللحديث بقية. @ المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي..