بعد أن انتهي من مشاهدة أي فيلم للممثلة الاسكتلندية تيلدا سوينتن أتساءل عن حال الممثلات الخليجيات: هل هن ممثلات فعلاً؟. يقيناً.. إن أبسط دور تؤديه هذه المبدعة هو أفضل من كل ما قدمته ممثلاتنا طيلة مسيرة الدراما الخليجية منذ نشأتها وحتى اليوم. ورأيي هذا جاء بعد تأملٍ في الأداء الممتاز الذي تنثره في أفلامها وبالذات منذ العام 2001 مع الفيلم الأمريكي المستقل (النهاية العميقة-The Deep End) الذي أعاد إطلاق موهبتها من جديد. وقد ترى أنت.. أن ذكري للممثلات الخليجيات يعدّ إقحاماً لقضيةٍ في غير محلها لكن لتعذرني على ذلك فإبداع تيلدا يفرض عليّ المقارنة بين واقع التمثيل هنا وهناك، ويجبرني على الإعجاب المطلق بها، إلى درجةٍ صرتُ أخشى معها أن ينطبع ما سأكتبه هنا بروحٍ عاطفيةٍ قد تُخرِجهُ عن سياق الموضوعية المطلوبةَ من مقالٍ يتحدث عن فيلمٍ جميلٍ لهذه الممثلة عنوانه (جوليا-Julia) ظهر في العام 2008. قبل الحديث عن الفيلم لابد من إلقاء نظرة على التربة التي نمت فيها بذرة "تيلدا سوينتن" لكي ندرك أن الإبداع لا يولد صدفة ولا اعتباطاً بل يحتاج إلى رافد معرفي وبيئة تحتضنه حتى يخرج ناضجاً ومتألقاً. فهذه الممثلة المولودة في لندن عام 1960 هي سليلة عائلة ارستقراطية تعتبر من أعرق العائلات في اسكتلندا وهي إلى ذلك خريجة جامعة كامبريدج العريقة وقد درست فيها علم الاجتماع والسياسة وتخرجت حاملةً شهادةً في الأدب الإنجليزي. وأثناء دراستها كانت عضوة في مسرح شكسبير الملكي. كان هذا في مطالع الثمانينيات الميلادية وقد بدأت حينها بالظهور في السينما وكان لها تعاون مع مخرجين كبار مثل الأمريكي روبرت آلتمان؛ لكن حضورها الأكبر سيأتي عام 2001 مع فيلم مستقل، اسمه (النهاية العميقة)، لمخرجين مغمورين هما سكوت مكيهي وديفيد سايغل. ومنذ ذلك الحين بدأت تستثمر موهبتها وثقافتها استثماراً حقيقياً جعلها واحدة من أهم ممثلات جيلها. فيلم (جوليا-Julia) يمكن اعتباره حالة خاصة في مشوار تيلدا سوينتن، وذلك لأنها ظهرت فيه بدور البطولة المطلقة بخلاف أفلامها الأخرى التي تظهر فيها مشتركة مع نجوم آخرين؛ مثل فيلم "مايكل كلايتون" مع جورج كلوني وتوم ويلكنسون، وفيلم "الحالة الغريبة لبنجامين بوتن" مع براد بيت وكيت بلانشيت، وفيلم "احرقها بعد القراءة" مع جورج كلوني وبراد بيت.. ففي هذه الأفلام تقاسمت البطولة مع زملائها، أما في "جوليا" فقد كانت المساحة خالية لها تماماً واستحوذت شخصيتها على اسم الفيلم وعلى أحداث القصة أيضاً؛ إذ تؤدي هنا دور السيدة "جوليا" مدمنة الكحول التي تبحث عن بارقة أمل تخرجها من المستنقع الذي غرقت فيه، وبالنسبة لأي معجب بأداء هذه الممثلة فإن فيلماً كهذا سيروي ظمأه بالتأكيد، لأن قيمة الفيلم قائمة بالدرجة على أداء البطلة من البداية وإلى النهاية، ولولا الأداء المميز لتيلدا لربما ظهر الفيلم عادياً وخالياً من أي نكهة مميزة. مخرج الفيلم هو الفرنسي إيريك زونكا مخرج الفيلم الحائز على الجوائز The Dreamlife of Angels الذي يحكي أيضاً عن معاناة المرأة والثمن الأخلاقي الباهض الذي يجب عليها دفعه لكي تضمن حياة مقبولة. في فيلمه الأخير "جوليا" نرى المرأة وهي تعاني من ذات الضغوط، لكن هذه المرة في أمريكا، مع السيدة "جوليا" مدمنة الكحول التي لا تستطيع السيطرة على حياتها فتطرد من وظيفتها وتصل إلى القاع، مادياً وروحياً، حتى جاءها الإنقاذ من صديقها الذي اقترح عليها الالتحاق بجمعية لعلاج المدمنين، وهناك تجد امرأة مكسيكية مهووسة ومدمنة مثلها، تطلب منها مساعدتها في جريمة اختطاف ستدر عليها ثروة مقبولة. ولأن "جوليا" قد وصلت القاع فعلاً وليس لديها ما تخسره فإنها ترى في الجريمة حلاً جذرياً لجميع مشاكلها، خاصة وأنها جريمة بسيطة وليست خطيرة، وفيها جانب إنساني مهم، وهو أن هذه المرأة المكسيكية لن تخطف طفلاً غريباً بل ستخطف طفلها الذي حُرمت من رؤيته بعد وفاة زوجها الأمريكي الثري. وكل هذا مجرد تخطيط أولي، ونظري، للجريمة، إلا أن الأحداث ستتضخم بشكل هستيري عند لحظة التنفيذ، حيث ستصبح "جوليا" مطلوبة رئيسية للأمن الأمريكي بتهمة القتل والاختطاف، وستهرب إلى المكسيك برفقة طفل لا تعرفه؛ منتظرة مبلغ الفدية الذي طلبته من جدّه. قصة الفيلم تسير بشكل خطي نحو الأمام دائماً، وهي ترصد علامات التحوّل النفسي والعاطفي الذي يطرأ على شخصية المرأة العابثة "جوليا" بسبب علاقتها بالطفل الصغير. فقد أذابت هذه العلاقة برود شخصيتها وجعلتها أكثر حساسية تجاه الحب والعاطفة، وهي هنا تشبه شخصية الرجل العجوز التي أداها الياباني الشهير تاكيشي كيتانو في فيلمه الإنساني (كيكوجيرو-Kikujiro)، ففي الفيلمين تكون براءة الطفل عاملاً مهماً في استعادة البطل لإنسانيته ولمشاعر الأمومة في حالة "جوليا" والتي بلغت سن اليأس دون زوج ولا أطفال. إنها مشاعر متضاربة تجتاحها خلال أيام الجريمة؛ بين لهفة للحصول على قيمة الفدية للخلاص من حياتها البائسة، وبين مشاعر دافئة بدأت تنمو داخلها تجاه طفل صغير لا يدرك ما يجري حوله، وقد أبدعت تيلدا سوينتن في عكس هذه المشاعر بشكل يجبر دائماً على المقارنة بينها وبين ممثلاتنا الخليجيات..