إن من شكر نعمة الله التحدث بما حبا الله به هذه البلاد المباركة حيث هيأ لهذين الحرمين الشريفين من الرجال الأفذاذ من يقومون برعايتهما من ولاة الأمر وفقهم الله الذين بذلوا ويبذلون قصارى جهدهم في صيانة الحرمين الشريفين إعماراً وتطهيراً وصيانة وتطويرا. وللحق والتاريخ لم يشهد الحرمان الشريفان عناية ورعاية وخدمة للحجيج كما حصل ويحصل في هذه البلاد المباركة فباسم المسلمين جميعاً وباسم الحجاج والعمار والزوار نرفع أكف الضراعة لمن كان خلف هذا العمل الإسلامي الجليل وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني بأن يجزيهم الله خير الجزاء وأوفره وأن يجعل ذلك في ميزان أعمالهم. لقد خص ربنا عز وجل أهل بلد الحرام والوافدين إليه بمزيتين جليلتين، ونعمتين عظيمتين بهما تحصل السعادة وتحل السكينة والطمأنينة وهما الأمن ورغد العيش امتن الله بهما على عباده ونوه بهما في كتابه فقال سبحانه (أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لايعلمون) فما برح هذا البيت العظيم، ومابرحت هذه الرحاب المباركة محفوظة بحفظ الرحمن عبر العصور والأزمان ومع تطاول الدهور والأعوام محفوظة بحفظ الله ممنوعة بقدرة الله عن أيدي الجبابرة الظالمين، والطغاة المفسدين فما أراد أحد بهذا البيت أو أهله سوءاً إلا عاجله الله بالعقوبة، وفيما قصه الحق سبحانه في محكم التنزيل عن أصحاب الفيل وما انزل عليهم من العذاب الأليم لعبرة للمعتبرين وذكرى للغافلين (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم)، وإن من تعظيم الله تعالى لهذا البيت الحرام أن جعله حرماً آمناً، يأمن فيه كل شيء يأمن فيه الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ويأمن فيه الصيد من الاصطياد، والشجر والنبات من القطع والاحتشاش ولذا وصفه الحق سبحانه في كتابه الكريم بأنه البلد الأمين، والبلد الآمن وإن من دخله فهو آمن، فقال عز شأنه: (وهذا البلد الأمين) وقال سبحانه (أولم نمكن لهم حرماً آمناً) وقال جل وعلا: (ومن دخله كان آمناً). إن الأصل الذي تنبني عليه سائر العبادات من حج وغيره هو: توحيد الله سبحانه، وإفراده بالعبادة دون سواه، كما قال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له) فأعظم مقاصد الحج ومنافعه تحقيق التوحيد لله والبعد عن الإشراك به يقول سبحانه (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لاتشرك بي شيئاً).فلا يجوز أن يلجاً العباد في قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتهم وشفاء مرضاهم إلا إلى من بيده وحده أزمة الأمور ودفع الشرور وتصريف الأيام والدهور لا إله غيره، ولامعبود بحق سواه سبحانه وتعالى عما يشرك به المشركون علوا كبيراً. إن من عظيم الأسى ما يرى من حال البعض منا من عدم استشعار لقدسية هذه الأماكن المشرفة، والرحاب الطاهرة، واستهانة بحرمتها في مظاهر مألوفة من تقصير في الواجبات الشرعية، وعدم المبالاة باقتران المعاصي والفواحش والمنكرات، والاعتداء على عباد الله الآمنين فيه، اعتداء على الأنفس، واستطالة في الأعراض، واستيلاء على الأموال، فلم يراع أولئك حرمة هذا البلد الأمين، ولاحرمات إخوانهم المسلمين، غافلين أو متغافلين عما يجره ذلك عليهم من وزر كبير، وإثم عظيم. فيجب على كل من أم هذا البيت العتيق: أن يلتزم المنهج الشرعي، والهدي النبوي، في أداء هذه الفريضة العظيمة، فللحج شروط وأركان، وواجبات ومستحبات، وضوابط وآداب، لابد من مراعاتها. وتحقيق المتابعة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كما أمره الله، ولزوم سنته- عليه الصلاة والسلام- والأخذ عنه، فهو القائل فيما رواه مسلم، من حديث عائشة - رضي الله عنها -: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد» والقائل في الحج: «خذوا عني مناسككم». واستشعار عظمة هذه الفريضة، فهي ليست رحلة برية، ولانزهة خلوية، ولاتُفعل تقليداً وعادة ومحاكاة، وإنما هي: رحلة إيمانية، مفعمة أجواؤها بالمعاني السامية، والأهداف النبيلة، وفرصة عظيمة للتوبة والإقبال على الله سبحانه، ولزوم صراطه المستقيم، بعيداً عن اللوثات العقدية والفكرية والمخالفات السلوكية. واستشعار مكانة هذا البيت العتيق، وقداسة هذه البقاع المباركة، وما أحيطت به من التعظيم والمهابة، فلا يسفك فيها دم، ولايعضد فيها شجر، ولاينفر فيها صيد، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن عرفها، فلا يجوز أبداً أن يحول هذا المكان إلى ما ينافي مقاصد الشريعة ومنهج الإسلام، ولاتكن فيه دعوة إلا لله وحده، ولايرفع فيه شعار إلا شعار التوحيد لله، ولايحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤذي فيه المسلمين، أو يروع الآمنين، أو يصرف الحج إلى ما يخالف سنة سيد المرسلين- عليه الصلاة والسلام- قال تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) والاستعداد للحج بالعلم النافع، والفقه في الأحكام، والبصيرة في معرفة المناسك - علماً وعملاً- وسؤال أهل العلم عما يشكل، فلا يجوز أن يعبدالله على جهل، أو تؤدى المناسك على غير هدى، وذلك أمر ينبغي أن يعنى به الحجاج أيما عناية. والتحلي بالأخلاق الإسلامية العالية، والآداب الشرعية الرفيعة، والتخلي عن كل ما يخالف الخلق والأدب مع الله سبحانه أو مع عباده، والحذر من إيذاء المسلمين بالقول أو الفعل أو اليد أو اللسان، فالحج مدرسة لتعليم الأخلاق الكريمة، والسجايا الحميدة، والشمائل النبيلة، والمثل العليا، من الصبر والتحمل، والتعاون والإيثار، بعيداً عن العنف والشدة، والمزاحمة والإيذاء.