ذات يوم جاء إلى الجامعة أستاذ زائر ليقدم كورساً في الاقتصاد، في المحاضرة الأولى بدأ بذكر عدة كورسات في الرياضيات المتقدمة وقال: أنصح الذين لم يأخذوا هذه الكورسات أن لايسجلوا في هذا الكورس، خرج من الفصل ثلاثة أمريكان (ولدان وبنت) وبقي في الفصل صينيان وياباني وفتاة هندية، قلت لنفسي لن أخسر شيئاً من جيبي فلأدع الحارثي (الملحق الثقافي حينذاك) يدفع الرسوم وفي الأخير اذا لم يعجبني اسوي دروب drop (تخصم الرسوم ولكن لايسجل الكورس في الشهادة). وزّع البروفيسور ذو اللهجة البريطانية علينا قائمة بالقراءات المطلوبة وبرنامج الكورس الذي كان مقسما إلى ثلاث أقسام: القسم الأول عن السببية causality والقسم الثاني عن نظرية اللعبة game theory والقسم الثالث عن برمجة المدخلات والمخرجات input output programming . كان البروفيسور مصرا أن أكثر الأخطاء التي يرتكبها الاقتصاديون في تنبؤاتهم باستخدام الأكونوميترك يرجع الى خلطهم بين السبب cause والنتيجة effect وأنه يجب أن يكون تدريس السببية أساسي لطلبة الاقتصاد، لاشك انني استفدت من الكورس ولكن أخطأت في تهجية كلمة السببية في الاختبار الأول رغم أنه كان يكتبها طوال السمستر على السبورة فامتعض مني البروفيسور وأصبح كلما يذكر السببية ينظر في اتجاهي ورغم تحرجي في البداية الا انني تعوّدت على نظراته وأصبحت جزءا من الدرس. السببية لاشك أنها أساس المعرفة ليس في الاقتصاد فقط بل في كل العلوم بل وفي كل مناحي الحياة فنحن بالفطرة نقول: "إذا عرف السبب بطل العجب"، إذا لم يعرف السبب ضاعت الطاسة وأصبح الإنسان كالملاح الذي ألقت الريح بسفينته الشراعية وسط عباب المحيط الهائج فأصبح يتخبط بلا بوصلة ولا نجم قطبي أو معالم طريق يستدل بها على الاتجاه السليم. سنتحدث بشكل عابر عن ثلاث كتب أنا اعتقد أن مؤلفيها خلطوا بين السبب والنتيجة فأخطأوا في اختيار عناوين كتبهم (أليس حقا أن الكتاب يقرأ من عنوانه؟) فبدلا من تسميتها بعنوان يدل على ان اللعنة لعنة تصرفات الإنسان ألصقوا اللعنة بالمورد وسموها: Resource Curse. الكتاب الأول عنوانه: تفادي لعنة المورد Escaping the resource curse هذا الكتاب اخترته ليس فقط لأن مؤلفه ( Joseph Stiglitz) حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، وليس فقط لأنه كان مستشارا في عهد الرئيس الأمريكي كلنتون. وليس فقط لأنه أحد المشاركين في كتابة تقارير لجنة المناخ IPCC (التي كنت عضوا في اجتماعاتها) . وليس فقط لأن بعض كتاباته اشرت اليها كمرجع من ضمن المراجع في رسالتي للدكتوراه. وليس فقط لأن بعض صحفنا (على سبيل المثال: الاقتصادية اّخرها العدد: 5843 بتاريخ 10 اكتوبر 2009) اعتادت أن تترجم وتنشر بعض مقالاته، بل لأنه قبل كل شيء تم طرده عام 2000 من منصب نائب الرئيس وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي بسبب كثرة اعتراضاته على سياسات البنك التي وصلت الى حد مشاركته في المظاهرات ضد سياسات البنك. الكتاب ليس فيه عيب (لأنه يستعرض الأوضاع السيئة في بعض الدول الغنية بالموارد ويقترح الوصفات لإصلاحها) غير أنه اختار العنوان الخطأ بأن نسب اللعنة (مجاراة للتيار السائد) للمورد فاستخدم عبارة: Resource curse ولم ينسبها الى الإنسان الذي أساء استخدام المورد رغم أن الكتاب يضع الشروط الأساسية (الديمقراطية والشفافية ونظام المؤسسات) التي يجب توفرها في الدول التي على وشك أن تصبح غنية بالبترول في امريكا اللاتينية كالبرازيل وفي افريقيا كغانا كي تتفادى اللعنة التي وقعت فيها دول اوبك ودول العالم الثالث الأخرى في اللاتينية وأفريقيا. الكتابان الآخران أحدهما بعنوان: لعنة الذهب الأسود على العالم The Global Curse of Black Gold والكتاب الثاني بعنوان: ساخنة, منبسطة, ومزدحمة Hot, Flat, and Crowded فإلى اللقاء - إن شاء الله - في عمود الأسبوع القادم. *رئيس مركز اقتصاديات البترول "مركز غير هادف للربح"