بعد التحايا، والسؤال عن الأهل، والأولاد، والأحوال، غادر أبو شريف غرفة الجلوس، لاحضار القهوة لضيفه وصديقه.. تسرب الصغار إلى الضيف كالفئران. قفز أحدهم على صدره وأخذ يمد يده إلى جيبه، والآخر تدحرج على ظهره فسحب غترته وعقاله.. وراح الثالث الصغير يعبث بجسده بلا لياقة. وحين أحسوا بمقدم أبيهم تنافروا كالجرذان المذعورة. أما هو فقد راح يصلح من جلسته، ويتحسس ثيابه، وبدنه!! أذهله الموقف، لم يصدق ما فعل به هؤلاء الشياطين الصغار المردة.. كيف تعلموا ذلك كله.. وأنى لهم هذا التدريب اللئيم الدقيق؟! جلس يحتسي القهوة، وقد كان رغم تماسكه مذعوراً في داخله، فلا يمكن لأي قوة شيطانية ان تعبث به هذا العبث أو ان تفعل به فعل هؤلاء الجن!! أبو شريف يحرك يده ويتحدث عن عمله اليومي، ونشاطه التجاري.. فقد صار عنده بدل سيارة النقل القديمة أربع سيارات جدد.. وقد تخلى عن «القيادة»، واكتفى بالجلوس وسط السوق يدبر السائقين، ويتأكد من وصول البضاعة، وينسق الطلبات مع العملاء ويقبض المحصول اليومي.. وقد تحسنت أحواله كما يرى وسوف ينتقل من هذا البيت إلى فيلا جديدة في أحد الأحياء الراقية. استمر أبو شريف يتحدث عن انهماكه في العمل، وحرصه على متابعة العاملين معه، وإرضاء الزبائن وكسب عملاء جدد. وكيف ان العمل ألهاه عن كثير من الواجبات حتى زيارات الأقارب والتي اقتصرت على المناسبات فقط.. وربما المناسبات المهمة!! أما الأولاد فقد أوكلهم إلى مدرس خاص يتمتع بخبرة جيدة في التربية مع التمكن من المادة بشهادة مدير المدرسة الذي زكاه وشهد له بالتفوق والنزاهة. كاد ان ينفجر من الغيظ، وربما من الضحك من هذا المدرس العظيم الذي يتولى رعاية هؤلاء الصبية الذين يتمتعون بحظ غير وافر من الفضيلة والأدب وحسن التربية!! استمر أبو شريف يتحدث بخيلاء، ويحتسي القهوة في نشوة، ويقسم على صديقه ان يشرب منها المزيد.. وكان «الصديق» لا يزال مذعوراً يترقب، فهو يرى رؤوس الشياطين تظهر وتختفي خلف شباك النافذة كرؤوس السناجب البرية، وهي تترصده بعيونها الثاقبة اللئيمة. وحين نهض أبو شريف لإحضار الشاي كاد يستغيث قايد ليعفيه من الشاي كي يخرج.. لكنه تردد.. واختفى تردده مع اختفاء أبي شريف وراء الباب.. وانقض الثلاثة الملاعين عليه مرة أخرى!! وقف لهم وهو يضحك في وجوههم، وكأنه يرغب في تحويل الأمر إلى ممازحة ووعدهم بأنه سيدفع لهم ما يشاؤون. ولكن تلك الوجوه الصغيرة، الجافة، الصارمة، المجرمة مصممة على فعل جريمتها!! قفز أحدهم على كتفيه وراح يلوي رقبته، والآخر جثم على صدره، والثالث الصغير وهو أكثرهم مهارة وتدريباً وخبثاً، راح يتحسسه، وفي ذهول وجد نفسه فريسة لهؤلاء الصغار الفجرة، نهبوا ما في جيبه، وسحبوا غترته، ودنسوا ثيابه، وأهانوا مواقع في بدنه. وحين أحسوا بأبيهم تطايروا كالجن بعد ان تفل عليه أصغرهم.. عاد أبو شريف وهو يصلح أمره.. ولم يستطع أمام حفاوة الأب ان يقول شيئاً.. وظل خاطره معلقاً بما فعل به هؤلاء المجرمون.. لكنه أخذ يقسر نفسه على المجاملة، ونسيان ما حدث رغم مرارته وقسوته.. وفي النهاية تمكن قليلاً من التغلب على حالته، وقلقه وفزعه، واضطرابه مما أصابه.. وانتهت الزيارة المشؤومة النحسة بتوديع حار من الأب.. خرج (قايد) وقد خف ذعره حينما لم ير الجن المردة.. سار في الطريق وهو يفكر ويعجب لما حدث.. ويسأل نفسه: أيعقل ان يكون هؤلاء من أبناء الإنس؟ وعن أية مدرسة ومدرس يتحدث أبوهم؟ وبينما هو سارح في تفكيره وتساؤلاته وإذا بالجن يترصدون له، ويتربصون به خلف أحد أركان البيوت، فينقضون عليه كالذئاب المسعورة يقذفونه بالحجارة، ويلوّحون بالعصي في أيديهم!! حاول ان يتقيهم فلم يتمكن.. فأسرع في مشيه ولكنهم كانوا أسرع منه.. تلفت يميناً وشمالاً لعله يرى أحداً ينقذه من ورطته، ولكن لا أحد إلاّ عجاج أقدام الشياطين الحافية وهم منطلقون كالأقدار الشريرة خلفه. انطلق بكل سرعته، ولكن الأحجار صارت تصيب ظهره.. فخلع نعليه لكي لا تعيق سرعته. سقطت نظارته من جيبه، وحين التفت إليها أصابه حجر في زاوية جبهته اليسرى، فوضع يده فوقها فإذا هي مبللة بالدم. تعلق به أحدهم فأراد ان يدفعه ويتملص منه فإذا هو ينهشه ويعضه عضة كادت تخلع اصبعه. انطلق المسكين يجري بكل ما أوتي من قوة.. وتضاعفت قوته على قوة، بل وشعر بأن قوة احتياطية أسعفته من شدة الخوف والرعب الذي أصابه. وأخذت الحجارة تتساقط عليه من بعيد.. بعضها يصيبه والبعض الآخر يخطؤه.. فأدرك دون ان يلتفت بأنه صار يبتعد.. أخذ يركض، والغبار والعرق ينحدر من وجهه إلى فمه فيختلط بأنفاسه المتطايرة المتتابعة. وأخيراً وجد نفسه في ساحة السوق العام بلا حذاء، وبلا غترة وبلا فلوس، والدم ينكسب من وجهه، وعيون الناس تأكله بدهشة واستغراب. صار يتحاشى عيون المارة ويلوذ بنفسه بين السيارات، ويتقي بالصناديق الكبيرة وصناديق الخضار، وأكوام الحطب داخل ساحة السوق. رآه الشرطي فلحق به وامسك بتلابيبه، فقد ظن أنه اللص الذي تبحث عنه العدالة.. ونام تلك الليلة في مخفر الشرطة!! ملاحظة: القصة مستوحاة من حادثة واقعية