لا تعتقدوا أيها السادة أنني سوف أحدثكم عن الشاعر الضّليل امرئ القيس ولا عن حلته المسمومة التي أهداها له ملك الروم وحين لبسها اشتعل جسمه قروحاً فمات عند جبل عسيب جاراً لإحدى بنات الملوك التي دفنت هناك فقال وهو يحتضر حين رأي قبرها: أجارتنا إنّ الخُطوب تَنوبُ وإنيّ مقيمٌ ما أقام عسيبُ لا.. فصاحب القروح هذا هو أديب أريب وناقد كبير وصديق حميم وجار عزيز هو الدكتور عبدالله الغذامي.. قابلت الدكتور الغذامي صيف هذا العام في المطار وهو في طريقه للسفر.. فقلت له ليتك لا تسافر إلى ذلك البلد في آب اللهاب، فقال لي وأنت ليتك لا تسافر إلى ذلك البلد الذي يفيض بوجوه بعض السائحين الذين يخدشون الذوق والحياء.. وسار كل منا في سبيله حيث اختار مكان مصيفه، واخترت أين يكون المصيف.. وحينما عدنا من رحلة الصيف أو هجرته هاتفته فإدا به يئن أنين اللديغ.. فارتعت وهممت أن أذهب إليه على عجل، فزيارة الصديق، والرفيق، والجار واجب ديني «والجار ذي القربى والجار الجنب». فكيف به وهو صديق حميم بيني وبينه ودّ قديم وأخذ وعطاء، وخصوماتٍ قد تصل إلى التناطح والترامح ولكنها دائماً تنتهي بالتصافح والتسامح والمحبة والرضا.. قال لي: لا أستطيع استقبالك فأنا طريح الفراش، وجسدي أصبح كأنه حلة من القروح، وعظامي قد استوطنت بها حمى أشد من حمى الرّبع التي كانت تعتاد شيطان الصعاليك - الشنفرى الأزدي. والف همومٍ ما تزَال تعَودُه عِياداً كَحمّى الرّبع أو هي أثقلُ بل هي أثقل من زائرة المتنبي التي تعاف النوم على الفرش الناعمة، والمطارح الوثيرة، وتنام في جوف عظامه.!! قلت لصديقي لا بد من أن آتيك بطبيب أريب يعالج قروحك التي ألبستك إياها حرارة الحمى فتَجرّح جسُدك وتقرح.. ولا يجوز أن تبقى هكذا رهين المحبسين: الحمى والقروح..! قال أنا أدرى منك بنفسي، ولقد تعبت من وصفات الأطباء، وعلاجاتهم، وحبوبهم التي أرهقت بدني ولم تشف جرحاً أو تخفف حمى.!! قلت: آه إذاً هناك الطب البديل، وبالذات طب آبائنا وأجدادنا رحمهم الله، والذي أثبتت الأيام أنه نافع وناجع. قال مثل ماذا؟. قلت الملّة. نملّك في الرمل. قال: أفي هذا الحر.. أتريد أن تشويني يا عدو الصحبة والصداقة؟ قلت كلا سوف أذهب بك بعد الغروب، وحين يخف وهج الحرّ، أخذك إلى «النقا» الشمالي!! وهو جبل رملي.. إن كان لا يزال على عهدي به، ولم تعدُ عليه عاديات الزمن، والأراضي، والرمال.. وحين يخف الوهج، وتبدأ نسمات الليل، حينها يكون بطن الرمل لا يزال محتفظاً بحرارته، ويكون الجو ناعماً، فأدفنك وأترك رأسك للنسمات والنجوم،.. سأدعك هناك ساعة أو ساعتين ثم أعود إليك، فإذا عظامك قد بردت، وإذا قروحك قد نشفت، وإذا بك أقوى وأنشط من الحصان..! قال: إلا قاتل الله مسيلمة..! فما تجاهلتها وقلت على الفور: أراك تحلّ قريباً من داره،!! فاحتملها وسكت... ثم قال: أنت بهذا تريد أن تقضي علي تريد أن تتركني للهوام والسباع، تريد أن تجعلني كأصحاب الذئاب!! فضحكت وقلت لا والله، ولقد نسيت حكاية الذئاب، وأصحابها، قال إن كنت نسيت فإنني لم أنس.. وكنت قد حكيت له حكاية سمعتها قبل عشرين عاماً من أحد شيوخ بني الحارث حينما كنا في هيوستن.. والحكاية كما أوردها الشيخ الحارثي هي: أنه ومجموعة من قومه ذهبوا إلى الحج وفي ليلة المبيت في مزدلفة كانوا متعبين من يوم النفرة من عرفات، فحطوا رحالهم للراحة والتقاط الجمرات، وبينما هم كذلك إذ أغارت عليهم مجموعة من لصوص الحجاج المشهورين في ذلك الزمان والذين يعرفهم صديقنا المشترك «أبو بندر» قال: انقضوا علينا وأرادوا سلبنا من كل شيء، وكانوا سراعاً خفافا كأنهم الجن، فصار بيننا وبينهم عراك، وكر وفر، ثم إن الله مكننا منهم فقبضنا عليهم جميعاً.. ولكننا احترنا في أمرهم.. هل نقتلهم، ونسفك دمهم في هذا المشهد العظيم، وفي هذا اليوم العظيم، أم ماذا نفعل بهم..؟! قال: فقام شيخ منا وقال: لا تقتلوهم. ولكن احفروا لهم حفراً، وادفنوهم فيها واتركوا رؤوسهم للتنفس، بعدها ندع أمرهم لله.. قال فدفناهم، ورحلنا، وقد انصرف الحجيج كلهم، وحينما أصبح المكان فارغاً هبطت عليهم مجموعة من الذئاب الضارية الجائعة وصارت تنبشهم وتأكلهم واحداً واحداً إلى أن شبعت، وبقي شخص لم تنبشه الذئاب، ولم تفترسه والسبب أن ذئباً يبدو أنه سيد القطيع أبقى عليه كي يتغذى به أو يأكله عند منبلج الصباح. وكان الذئب شبعاناً، وأراد أن يأخذ قسطاً من النوم، فلبث عند رأس الرجل، لأنه يخشى أن تغير عليه بقية الذئاب، وراح يحك رأسه برأس الرجل المدفون، فأصابه الذعر، والرعب، وهو ينظر إلى فكي الذئب، فلما أخذ الذئب يحك رقبته برأسه وفي غمرة يأسه وغضبه عض رقبة الذئب، وأنشب أسنانه فيها فوثب الذئب مذعوراً فانتشل الرجل من حفرته فنجا من الموت والافتراس.. هذا هو حديث الحارثي.. ضحكت من الدكتور الغذامي وقلت ألا تزال تذكر هذه الحكاية؟ ثم قلت اطمئن فلم يعد هناك في المنطقة سباع ولا ذئاب ولم يبق إلا الثعالب، فتوكل على الله ودعني ألبسك حلة من الرمل تشفي قروحك!! ولكنه تمتم ببيت شعبي فيه هجاء خبيث.. وبعد أيام ذهبت أعود صديقي،. فقال أتدري ما سبب قروحي؟ إنها ليست حلة الحمى كما كنت أظن، بل حزام..!! قلت ماذا؟ قال حزام والله إنه حزام.! قلت أي حزام؟ قال إنه الحزام الناري!! فامتلأت رعباً، وكدت أولي هارباً ولكنني استعدت شيئاً من رباطة جأشي وجلست على حذر إلى جانب صديقي المتمنطق بحزام من القروح النارية.. أجارنا الله وإياكم من كل حزام متفجر وناسف.