الماء شريان الحياة وسر من أسرار وجودها، جعله الله حياة ومعاشاً، به تستمر الحياة على وجه الأرض ولأنه نعمة عظيمة من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى على بني الإنسان، فقد أولاه ديننا الإسلامي الحنيف اهتماماً خاصاً ونبّه إلى أهميته {وجعلنا من الماء كل شيء حي}... وحضنا على عدم الإسراف أو التبذير في استخدامه ومع ذلك فإننا مازلنا نسرف في أنفس وأغلى الموارد التي منحها الله لنا برغم التحذيرات المستمرة من خطورة التعامل الجائر مع هذا المورد النفيس. نقول ذلك في ظل الاستهلاك غير الرشيد للمياه في المملكة العربية السعودية والذي بدأت تتكشف خلال السنوات الأخيرة آثاره السلبية، حيث زاد معدل استهلاك المياه بالمملكة عن المتوسط العالمي وأصبحنا مستهلكين شرهين للمياه مع أننا في أمس الحاجة إلى هذه المياه المهدرة لافتقارنا إلى المخزون المائي الكافي. ولا شك أن ترشيد استهلاك المياه يعكس الالتزام بالمبادئ السامية لديننا الإسلامي الحنيف التي تنبهنا دوماً إلى عدم الإسراف، كما أن الترشيد يعد مؤشراً على المواطنة الصالحة ورمزاً للتحضر واسهاماً حقيقياً في حماية البيئة ويكفي أن نعلم أن الدول التي تمتلك عدداً وفيراً من الأنهار والبحيرات العذبة ولا تعاني مثلنا من شح الموارد المائية تنتهج سياسة رشيدة في استهلاك المياه لقناعتها بأن الماء مورد نفيس يجب المحافظة عليه من الهدر خاصة وأن موضوع المياه أصبح يستحوذ على اهتمام الساسة والخبراء في ظل ارتفاع حرارة الأرض وتصحرها وجفاف كثير من ينابيع الأنهار ومصادر المياه وبعد أن غدا موضوع المياه مرشحاً لاشعال الحروب في المستقبل القريب. وإذا كانت المملكة العربية السعودية تبذل جهوداً حثيثة نحو تحقيق كل مقومات الحياة الآمنة والمستقرة لمواطنيها بتنمية الموارد المائية من خلال بناء السدود وإنشاء المزيد من محطات التحلية حتى صارت المملكة من أوائل الدول المنتجة للمياه المحلاة في العالم فإنها على الوجه الآخر تواجه الإسراف في المياه من خلال حملات إعلامية مكثفة ومدروسة تشارك فيها كافة الأجهزة الرسمية بالدول إلا أن التوعية بخطورة الاستعمال غير الرشيد للمياه مازالت تحتاج إلى بذل جهود إضافية على كافة الاتجاهات، ومن كل المؤسسات فالمجتمع بكل فئاته وأطيافه ينبغي أن يشارك بفعالية في مثل هذه الجهود ويأتي على رأسها المؤسسات التربوية والمناط بها بث المفاهيم الصحيحة في نفوس الناشئة في كيفية التعامل الرشيد مع المياه بعد أن بات الإسراف - وللأسف - جزءاً من ثقافتنا الاستهلاكية. وإذا كانت التربية بمفهومها الشامل وسيلة طيعة للتغيير وتنمية القيم والاتجاهات الإيجابية، وإذا كانت مادة التربية الوطنية المقررة على أبنائنا في المرحلة الابتدائية من ضمن أهدافها الرئيسية التوعية بترشيد استهلاك المياه إلا أن أبناءنا في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى تعزيز هذا المفهوم وترسيخه في نفوسهم من خلال ممارسات عملية ضمن الأنشطة التربوية، وضرورة التأكيد على ترشيد استهلاك المياه وعيهم وسلوكهم من خلال طرق غير تقليدية باعتبار أن ذلك مطلب وطني وضرورة حياتية للحفاظ على البيئة... هذه هي البداية الحقيقية التي نراها ضرورية لغرس الاتجاهات السلوكية الصحيحة نحو التعامل الرشيد مع المياه في المجتمع بأسره وإكساب أفراده أنماط جديدة من السلوك تتسم بالتحضر والوعي. وعلى المواطن أن يدرك أن حفاظه على المياه يندرج تحت الانصياع لأوامر الشارع الحكيم والتي تطالبه بعدم الإسراف والتبذير في كل شيء خاصة المياه حتى ولو كان على نهر جار {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}، ويجب أن يكون على قناعة داخلية بأنه في حالة هدره للمياه فإن سلوكه هذا من شأنه أن يشكل خطورة شديدة على المجتمع بأسره وعلى البيئة من حوله بل وعلى مستقبل التنمية الاقتصادية في بلاده، وأن يعلم أن تعامله الرشيد مع المياه أمر تمليه حاجة الوطن لشح مصادر المياه في المملكة. وينبغي أن تتوازى مع حملات التوعية هذه أن يكون كل منا قدوة في بيته ناصحاً ومؤدباً ومرشداً بل وحازماً ومحاسباً إذا لزم الأمر في حالة الإسراف في المياه المنزلية فالمسؤولية تقع على عاتق الجميع بداية من البيت ومروراً بوسائل الإعلام وأئمة المساجد والمدارس والجامعات وكافة المؤسسات الاجتماعية والتربوية والأجهزة الرسمية في الدولة. إن رفع مستوى الوعي المائي لدى أفراد المجتمع لم يعد أمراً هامشياً نمر عليه مرور الكرام بل بات ترشيد المياه خياراً استراتيجياً للمملكة العربية السعودية في ظل مناخها الصحراوي القاري الذي يفتقر إلى الموارد الطبيعية والأنهار وشح الأمطار وقلة المخزون من المياه الجوفية والتي في أغلبها غير متجددة، وعليه فإن المجتمع السعودي بكل فئاته مطالب بل ملزم بالمحافظة على المياه وترشيد استهلاك وبذل أقصى الجهود لترشيد استخدامها وتنمية مصادرها بما يضمن استمرارية تدفق مياه الشرب للمستهلكين على مختلف مستوياتهم. ولا يخفى أنه يجب علينا الإسراع في مواجهة مخاطر الشح المتزايد في مصادر المياه وترشيد استثمارها مع التنامي المتصاعد للسكان في المملكة العربية السعودية وتلبية الاحتياجات المتزايدة في الطلب على المياه، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال التساهل في إهدار المياه وتبذيرها بهذه الصورة المهينة والتي تعكس عدم وعينا بقيمة هذه الثروة النفيسة، ولا يجب أن يكون رخص ثمن المياه ووصولها إلى المستهلكين بأسعار في متناول أيديهم دافعاً لهم لإهدارها لأن الترشيد يعني بكل بساطة المحافظة على حياتنا ومستقبل أجيالنا القادمة. ولا نريد من خلال هذا المقال أن نرسم صورة غير متفائلة للوضع المائي بالمملكة بل نهدف أولاً وأخيراً أن نغير ثقافتنا الاستهلاكية وألا نستمر في استهلاك المياه بهذا الإسراف، وعلينا أن نتذكر أن دولتنا تنفق أموالاً باهظة بهدف تحلية المياه وتنقيتها لتكون صالحة للمستخدمين، وأنه بإهدارنا هذه الثروة النادرة والنفيسة فإننا نعمل بدون قصد على إعاقة عملية التنمية في كافة المجالات الاقتصادية لكون الماء عنصراً لا يمكن الاستغناء عنه في كافة الاستخدامات الحياتية ولذلك فإنه من الأحرى أن نتعاون جميعاً على ترشيد استهلاك المياه، وأن يكون استخدامنا له مثالياً وسليماً انطلاقاً من التزامنا الديني وانتمائنا الوطني.