لكل مجتمع مهما كان شكله أو طعمه أو رائحته ثقافة يمكن من خلالها تحديد ملامح هذا المجتمع، أما المقصود بالثقافة هنا ليس الفنون المكتوبة والآداب ولكن المقصود الحياة نفسها وكيف يعيش ذلك المجتمع حياته و ماهي أدواته للعيش وكيف يستخدمها. في كثير من المجتمعات يسهل عليك أن تجد الملامح الرئيسة لثقافة ذلك المجتمع وذلك في عدة مواقع فمثلا قد تذهب إلى الشارع أو تستمع إلى الراديو أو تشاهد التلفزيون أو تشاهد مسرحية أو فيلما في ذلك المجتمع عندها سوف تجد انك تستطيع أن تحدد أركان هذه ثقافة هذا المجتمع ببساطة، مثل هذه الثقافات سوف تكتشف بسرعة أنها تتفق على قضايا مشتركة بين أفرادها بينما تترك ما تختلف عليه بعيدا عن واقعها لذلك أصبحت سهلة الفهم أمام الآخرين. في مجتمعات أخرى ومنها مجتمعاتنا سوف تجد أن المجتمع وضع له ثقافة ذات أركان محددة في كل موقع بحيث لا يستخدم الفرد نفس الثقافة في كل موقع يذهب إليه وهذا يجعلنا ندرك أن لكل مقام ثقافة في جعبة الفرد في مجتمعاتنا، وهنا لابد من الإشارة إلى أن مثل هذه الفكرة ذات بعد تاريخي في مجتمعاتنا المحلية حيث يعتبر من البراعة السلوكية التشكل وفقا للموقف الذي يعيشه الفرد بمعنى تاريخي دقيق الازدواجية جزء من ثقافة مجتمعاتنا في السلوك. هذه الحقيقة ليست اكتشافا جديدا فالفرد في مجتمعاتنا أصبح يدرك أنه ليس لديه كتلة ثقافية واحدة يستطيع نقلها في كل موقع يتواجد هو فيه، ولذلك أصبح الفرد في مجتمعاتنا أمام خيارين لا ثالث لهما فإما أن يكون فردا (متعدد الثقافات) أو يكون فردا يتحيز ويتطرف لصالح ثقافة خاصة به قد يكون اكتسبها من المنزل أو المسجد أو من الانترنت أو من التلفزيون أو من ثقافة أخرى يعشقها. السؤال الذي حيرنا جميعا وحير غيرنا هو: أين يمكن أن توجد ثقافتنا المجتمعية...؟ وبطريقة أخرى كيف يمكن أن نبني ثقافة مشتركة بيننا بعيدا عن الدوران فقط حول مجتمعنا بثقافات متعددة..؟. لنكن صرحاء حول ثقافتنا المجتمعية نحن كما يبدو من المشهد الاجتماعي لا نملك ثقافة متفقاً عليها من الجميع وهذا لب المشكلة، عندما نذهب إلى المسجد يوم الجمعة نجد ثقافة قد تتعارض كثيرا مع مقتنيات منازلنا وقد نجد من يصادر محتويات منازل الكثير من أفراد المجتمع. عندما تشاهد قناة فضائية تجد ثقافة تتعارض مع تلك الثقافة التي سمعتها في المسجد وعندما تذهب إلى المدارس والجامعات تجد ثقافة لا تتوافق مع ما يحدث في الشارع ولا تعبر عنه، هذه ثنائيات كبيرة ومتعددة تجعل الثقافة مفقودة في الصورة العامة للمجتمع بينما هي موجودة في الصورة الخاصة لكل فرد حيث يمارس كل فرد ما يريد من ثقافة بحسب ما تستدعي حالته. بلغة قاسية نحن لدينا ثقافة فردية وليس لدينا ثقافة مجتمعية والدليل على ذلك أمثلة كثيرة فالخطورة في الثقافة الفردية عدم وجود حدود قيمية لها فتصبح ارضاً خصبة للتطرف والتشدد من جانب معتنقها. لدينا متشددون يرفضون أن تذهب بناتهم وفي بعض الأحيان أبنائهم إلى المدارس، في المقابل لدينا من يتسابقون في الحصول على التعليم لأبنائهم سواء الذكور أو الإناث في أي موقع في العالم ولا يرون حرجا في ذهاب أبنائهم وبناتهم لتلقي التعليم في أي دولة مهما بعدت أو قربت، هناك ثقافة تمنع تكشف النساء على الرجال وفي المقابل هناك خادمات في المنازل بأعداد مخيفة، هناك سائق لكل امرأة مقابل ثقافة تتشدد في جعل المرأة مستقلة لذاتها. هناك إنتاج فني في المجتمع وفنانون وممثلون وممثلات وفي المقابل هناك ثقافة تعتبر كل ذلك غير مقبول مجتمعيا وهناك من يستبدل الأشرطة الدينية بأشرطة الغناء وفي نفس الوقت هناك من ينتج هذه الأشرطة للمجتمع وفق قانون قائم. هناك من يستطيع أن يكون متعدد الثقافة بحيث يجمع بين ثقافتين في نفس الوقت كأن يجمع بين ثقافة يسمعها في المدرسة أو المسجد أو المنزل وبين ثقافة تخص معاملاته سواء الفكرية أو التجارية وهذا يعطينا مؤشرا بقدرة كثير من الأفراد على قيادة ثقافتين متناقضتين في كثير من مظاهرهما في عقلية واحدة. هناك الكثير من الأفراد لا يستطيع أن يقوم بهذا الدور نظرا لطبيعته الفكرية أو لشدة قناعاته في الثقافة التي تعلمها سواء في المنزل أو المدرسة أو المسجد، هذا النوع من الأفراد سواء كان متشددا أو متحررا هو في النهاية يميل إلى التطرف نظرا لأنه يبحث عن ثقافة مجتمعية يتفق عليها الجميع فإذا كان متشددا دينيا أو متشددا حداثيا فهو يعتقد انه من الواجب أن تكون ثقافته التي يعتقدها هي من يقود المجتمع بينما تغيب عنه فكرة وجود ثقافة مشتركة تحقق متطلبات الجميع. علماء الاجتماع يؤكدون دائما قدرة المجتمع على حمل المتناقضات ولكن ليس إلى الأبد فهناك لحظة منتظرة لابد لها من حسم الموقف لصالح ثقافة بعينها مما يعني انهيار ثقافات أخرى، وفي معظم الأحيان يحسم المجتمع اختيار ثقافته لصالح الثقافة الأكثر اعتدالا وليس الأكثر عددا. لابد من الإشارة إلى انه كلما زادت كمية المتطرفين لليمين أو اليسار في ثقافة مجتمعية بعينها كلما كان ذلك دليلا على عدم وجود ثقافة مشتركة في ذلك المجتمع. إنني اجزم أن الكثير منا قد استطاع أن يكيف نفسه وفقا للموقف الذي يعيشه ولكن ليس بالطريقة الصحيحة حيث يمارس الأفراد كثيرا من الازدواجية في مفهوم الثقافة المجتمعية ما نحن بحاجة إليه ثقافة مشتركة ذات قيم واضحة لا تسمح للفرد بتجاوزها ولا تتعارض مع موقف المسجد أو موقف المدرسة أو موقف التلفزيون أو الانترنت أو أي انظمة قائمة ولكن يجب الحذر أن المقصود هنا ليس تغليب ثقافة على أخرى بحيث نسمح مثلا لثقافة بعينها أن تصادر الاتجاهات الأخرى في المجتمع. إننا يجب أن ندرك أيضا انه كلما زادت كمية المتعارضات والمتناقضات الفكرية والقيمية في مجتمع بعينه فهذا دلالة على أن مركب الثقافة وقيمها لم يصنع بعد، مما يحتم على ذلك المجتمع الوقوف بحزم لبناء ثقافة مشتركة ذات قيم واضحة ومبادئ مشتركة بين جميع الناس. إن ما تعانيه المجتمعات وخصوصا الإسلامية منها أن خلطت بين مفاهيم كثيرة من حياتها ولم تعد لها أركاناً تحميها لذلك فقدت بين اجتهادات الأفراد والمجتمع، وهذا هو في نظري سبب التشدد والتطرف من الجميع لأن ثقافة مجتمعية بلا حدود يعني أن من يديرها الأفراد وليس المجتمع. فالثقافة مهما كان نوعها هي القدرة على تحديد موقع لكل فرد على خارطة المجتمع وليس قيام الأفراد بتحديد موقع المجتمع كما يعتقدون. إن مجتمعاتنا أصبحت غير قابلة للتحرك بل وترفض كثيراً من التحرك إلى الأمام نتيجة تزاحم الثقافات الجزئية السائدة فيه بحجة أن ذلك مختلف مع الماضي، نحن بحاجة إلى أن ندرك أين نحن وأين ثقافتنا لنشترك جميعا في بناء ثقافة مشتركة لا ترى أهمية إلا للمجتمع وحده ولحياته الفكرية والاجتماعية والسياسة والاقتصادية.