يفاخر العرب والمسلمون بأسبقية عباقرتهم في الفلك والكيمياء والرياضيات والطب، وهم ليسوا استثناءً عن غيرهم من أصحاب الحضارات الأخرى الذين قدموا منجزات إنسانية، ونظراً إلى أن التقدم العلمي هو ثورة العصر وبناؤه، فإن السباق على كسب المعارف وتطويرها أدى بدول عظمى إلى استقطاب العقول بأي ثمن كان، وعندما نتطلع لأنْ تكون لنا جهودنا في المساحات المفتوحة عالمياً بكسب المعرفة، فإن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية التي اعتبرت حدثاً في الأوساط البحثية والأكاديمية العالمية، أثارت جدلاً من حيث نظامها وأهدافها ونوعية التعليم فيها، وبصرف النظر عن الخلاف باعتباره طبيعة بشرية، إلا أن إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس الذي رأى في خطبته يوم الجمعة الماضي أن (الجامعة مصدر إشعاع حضاري وفي أيد أمينة)، لم يكسر القاعدة حول تلك الأهداف، وإنما أضاف مفهوماً ووجهة نظر ترى أن العلم هو أهم المكاسب والاستثمار الأمثل الذي جعل الفوارق كبيرة بين أمم وشعوب العالم.. وعندما ننظر للفارق بين أجيالنا قبل خمسين عاماً والآن، نجد أن ثمرة التعليم أوجدت الكفاءات العالية من الأكاديميين في الجامعات، والأطباء والمهندسين، والعديد من الاختصاصات النادرة التي لم نكن نعرف عنها إلا في الأحلام، ويكفي أن الفارق بين ذلك الماضي وزمننا الراهن قلب الأشياء كلها، حتى إن أطفالنا بسنيّهم الأولى صاروا يتفاعلون مع أجهزة الحواسيب وفك رموز الألعاب الدقيقة، وشفرات المعرفة بحدودها التي تتناسب وأعمارهم، وهو مايعد أحد أهم التطورات في المنحى العلمي المتطور، والجامعة ليست إضافة فقط لجامعاتنا الأخرى، وإنما هي بناء جديد آخر نحو علوم المستقبل وبحوثه، والتي سيكون عائدها هائلاً وليس رمزياً.. الشيخ السديس لم يأت من فلك آخر وهو الشخصية التي تدرك قيمة التقدم العلمي وتحدياته، وكيف أن بناء الشخصية الوطنية والإسلامية متعلق بالإرادة، وحافز التطور التقني، ولولا الإسلام لما كانت لنا أدوار في التاريخ، ولا هوية نحافظ عليها، وبالتالي إذا كان الماضي مشرقاً بعلومه ومعارفه وعباقرته، فإن الحاضر هو تسلسل لذلك التاريخ، وإن جاءت فرص اليوم وحوافزه أكثر، باعتبار مقياس التقدم على المستوى البشري قطع أشواطاً لم يكن أحسن المتفائلين يصدق على هذه الإنجازات.. لقد حققت جامعاتنا القائمة العديد من الإنجازات، ولا زلنا نتطلع لأنْ تحتل كرسياً أمامياً بين الدوائر العلمية، خاصة وأن بيئتنا ليست شحيحة لو استغلت إمكاناتها بكفاءة أبنائها، والافتراض يدفعنا إلى دفع قدراتنا وإمكاناتنا المادية باتجاه التنمية البشرية التي أصبحت أهم الموارد في عالم اليوم، وليس أمامنا طريق إلا خيار التعليم الحديث بأدواته الرياضية والتقنية والعلمية، وعندما اختار الملك عبدالله وضع التعليم في أولويات خططه، كان يدرك أن سد الفجوة مع العالم المتقدم ينبت من داخل وطننا وكفاءة شبابه وخبرة شيوخه، ونحن الآن نخطو بالاتجاه الواقعي، والذي سنجني مكاسبه في الغد، وهي مسيرة صعبة، ولكنها ليست مغامرة خاسرة..