الدين.. والعقل والمنطق يؤكدون على أنه ليس من العدل أن نحمّل الفتاة وحدها وزر الخطيئة، أو ننكر عليها توبتها وعودتها إلى الطريق الصحيح، أو حتى نتركها وحدها تدفع ثمن الخطأ طول العمر دون أن نبادلها الصفح ونجدد لها الحياة .. والسؤال: لماذا لا يزال البعض منا يصر على التعامل مع الفتاة المذنبة على أنها مجرمة؟ أو منحرفة؟، والوقوف منها موقف المتربص للنيل من كرامتها والحكم عليها بالنبذ والطرد؟ ..لماذا المجتمع ذاته يمنح الشباب صك براءاتهم سريعاً ويعاقب الفتيات على أخطائهن مدى الحياة؟. "الرياض" من خلال هذا التحقيق تناقش هذه القضية مع أطراف أسرية متعددة، وتكشف آراء عدد من التربويين والتربويات والمهتمين بالشأن الأسري لمعرفة المزيد حول هذه القضية التي باتت تؤرق الكثير من الفتيات، وتدمر مستقبلهن بسبب هفوات الصبا ومراحل المراهقة.. قصص واقعية في البداية تروي لنا إحدى الفتيات (إدارية بمستشفى خاص في عسير) قصة زميلتها التي فقدت عملها بسبب علاقة "حسن نية بهدف الزواج" مع شاب، وتحمس هذه الفتاة لوعود الشاب حتى استطاع إقناعها في ظل غياب الرقيب من أهلها بالخروج معه أكثر من مرة، وشاء الله أن يفتضح أمرهما، ورغم عدم تعرض الفتاة إلى أي أذى من الشاب، إلا أن المجتمع المحيط بها وأسرتها حولا هذا الخطأ إلى ذنب لا يمكن أن يُغفر لها على الرغم من تقدم الشاب للزواج منها، ومع ذلك أصر أهلها على حبسها داخل المنزل ولا تزال، ومنعها من استخدام أي وسيلة اتصال، خوفا من وقوعها في الخطأ مرة أخرى.. مما جعلها تتعرض لأزمات نفسية وصحية سيئة.. بينما ظل ذلك الشاب في نظر المجتمع صاحب تجربة مرت وسوف يسامحه المجتمع بعد أيام وليست شهورا ليعود إلى حياته الطبيعية.. وتروي إحدى الأمهات في محافظة تثليث قصة فتاة أخرى كانت تدرس في إحدى كليات المنطقة مع إحدى بناتها، وتعرفت قبل أن تتخرج بثلاثة أشهر على أحد الشباب المستهترين بأعراض الفتيات، وبعد أن تمكن من ما يريد اختفى عن الأنظار للبحث عن فريسة أخرى، بينما ظلت هذه الفتاة بعد افتضاح الأمر من قبل أهلها حبيسة منزلها لا تغادره، ولا يزورها أحد حتى تم عقد زواجها على رجل طاعن في السن الذي وجدها فرصة مناسبة لقضاء وقت ممتع مع هذه "الفتاة المظلومة"، حيث لم يستمر زواجها كما أوضحت سوى 6 أشهر، ثم عادت إلى منزل والدها منهارة ومحطمة بعد هذا الزواج الفاشل وغير المتكافئ، مبينة أن كل ما تعرضت له هو رغبة أهلها في التخلص منها تحت جنح الظلام. منطق غير سوي! وتقول المعلمة (ع. الكلبي) "مرشدة بإحدى المدارس الثانوية في محايل عسير " إننا بحاجة ماسة لوقفة المؤسسات التربوية والأسرية بل والمجتمع مع هذا المنطق غير السوي من قبل بعض أفراد المجتمع، متسائلة لماذا هذا الإصرار على عدم قبول توبة الفتاة بعد وقوع الخطأ منها سواء أكان مقصودا أو غير مقصود؟، ولماذا لا نجد درجة من التسامح مع هذه الفتاة المذنبة بينما ذلك الشاب يحظى بدرجة عالية من التسامح وكلاهما بشر وكلاهما مخطئ؟. من جانبها أوضحت الأستاذة عائشة العقيلي، وهي باحثة في المجال الأسري أن المجتمع لدينا مع الأسف لا زال ينظر إلى أن عفة الشاب غير قابلة للخدش مهما فعل وارتكب من محرمات ومنكرات، بينما تصبح الفتاة من أول زلة لها ساقطة في نظر المجتمع بأسره، مؤكدة على أن كل هذه المفاهيم خاطئة وإذا كان المجتمع يحاسب الفتاة من منظور ديني وشرعي متهما إياها بأبشع الاتهامات، فلماذا لا يساوي بينها وبين الرجل؟، حيث جاءت الأحكام الشرعية لتطبق على الذكر والأنثى دون استثناء، مشيرة إلى أن تسلط المجتمع على هذه الفتاة والقسوة عليها سوف يخلق الكثير من المشاكل المستقبلية التي ربما تقود هؤلاء الفتيات إلى مستنقع آخر من الأخطاء بسبب رفض المجتمع لتقبلها وإحسان الظن فيها.. وترى إحدى طالبات المرحلة الجامعية في خميس مشيط أن المشكلة ستظل قائمة وهي في تزايد مستمر، مؤكدة على أن المجتمع لا يرحم الفتاة المخطئة لأول مرة، مشيرة إلى أن توفر وسائل التقنيات والانترنت والاتصالات قد سهل من وقوع بعض الفتيات ضحية نصب وخداع من بعض الشباب الطائش!. وقالت متسائلة لماذا هذا الانتقام المبطن؟ ولماذا تبقى في نظر أسرتها ومجتمعها مرفوضة على كافة المستويات؟ والتعامل معها مستقبلا بأسلوب الشك وعدم منحها أي ثقة؟. وتؤكد الأستاذة فاطمة الغرابي وهي متخصصة في علم الاجتماع الأسري على أن المسؤولية مشتركة بين المؤسسات التربوية والدينية والاجتماعية للحد من النظرة العنيفة من المجتمع ضد الفتاة التي ارتكبت جرما ما. وقالت: أمام "وصمة العار" التي تطارد حياة الفتيات، ووفق تقاليد اجتماعية عتيقة وبالية لم ينزل الله بها من سلطان.. ماذا نتوقع سوى الرفض الاجتماعي! الشاب ناقل عيبه! وأجمع عدد من أولياء الأمور على مختلف المستويات الأسرية والاجتماعية والتعليمية ممن التقت بهم "الرياض" والبالغ عددهم 12 مواطنا أن دافعهم لتغليظ العقوبة على الفتاة دون الشاب هو لحمايتها من مغبة الوقوع في هذه الأخطاء مرة أخرى، كما وصفوا هذه الأخطاء بأنها "قاتلة" لكل أفراد الأسرة وأنها سوف تصمهم بالعار وفقد الكرامة ما دام هذه الفتاة المذنبة تعيش بينهم. وعللوا عدم تأثر الشاب بقدر ما تتأثر الفتاة من أن "الرجل ناقل عيبه"، بينما خطأ الفتاة لا يقتصر عليها دون باقي الأسرة، ورأى عدد آخر أن احتواء الفتاة المخطئة من قبل الأسرة وربما التجاوز بعد وقت كبير قد يتم في حالة تعاون الأجهزة الرسمية والمعنية من أمنية وغيرها في الستر عليها، مما يخفف عقوبة أسرتها ضدها في حال عدم اكتشاف أخطائها، ولذلك يسهل على الأسرة طبعا بعد معاقبتها تجاوز هذه المحنة. الفتيات يتحدثن من دور الرعاية! وأثناء جولة "الرياض" على دور رعاية الفتيات في عسير بالتعاون مع عدد من الباحثات والمشرفات تم استطلاع آراء عدد من الفتيات اللاتي وقعن في براثن الخطيئة، حيث أكدن أن معانتهن النفسية تكمن في النظرة المستقبلية لهن، حيث يشعرن بالحسرة والندامة، ولكن هذا الشعور لم يشفع لهن بالتسامح وقبولهن صالحات في المجتمع، وأن العديد من أسرهن قد تخلوا عنهن بسبب خوفهم من الفضيحة، مشيرات إلى أن دور الرعاية ليست حلا جذريا لضمان مستقبل آمن للفتاة ما لم تسعى الأسرة إلى إعادة بناء جسور من الثقة والرعاية والاحترام المتبادل معهن وتجاوز ما مضى. كيف نغير ثقافة المجتمع؟ وأكد الباحث الاجتماعي والأسري الدكتور سعيد عبد الله على أن مجتمعنا العربي على وجه العموم والمجتمع السعودي خصوصا لا زال يحمل ازدواجية عجيبة في تعامله ونظرته بالنسبة للأخطاء الصادرة من كلا الطرفين، فقد اعتاد مع الأسف أن ينظر إلى الأخطاء الذكورية بقدر كبير من التسامح لدرجة وصولها لدى البعض الى الامر الطبيعي، مبينا أن الأسباب كثيرة لظهور هذه الثقافة المتأزمة اجتماعيا وتربويا، ولا يمكن إلقاء كامل المسؤولية على جهة دون أخرى، فهي كما ذكر ثقافة يتبناها مجتمع بأكمله، مستدركاً بقوله أن الأسباب الحقيقة التي تقف وراء هذه الاتهامات والنزعة إلى تحقير الفتاة وسلب حقها في التصحيح والحياة هو الابتعاد عن تطبيق تعاليم الدين وقيمه الفاضلة، وثانيا عدم الرغبة في التخلي نهائيا عن القيم الاجتماعية التي غرست هذه المفاهيم الخاطئة في ظل مفاهيم الشرف والعفة والكرامة للفتاة أو المرأة التي يجب ألا تتعرض لأي اهتزاز مهما كانت المبررات، لأن اهتزاز الفتاة أو المرأة هو اهتزاز لأركان الأسرة، ولأن الرجل يبقى في صدارة المسؤولية المطلقة عن الفتاة، ولذلك أي خطأ ترتكبه فلن يبقى أثره في نظرة المجتمع مقتصرا على الفتاة، بل يشمل أفراد الأسرة دون استثناء، بينما يعتقدون أن خطأ الشاب لن يكون بنفس التأثير وقد لا يتعدى تأثيره سواه فقط، مختتما تعليقه بالقول ان الإسلام لم يفرق أبدا بين الرجل والمرأة في الرؤية والتعامل لأن كليهما كائن بشري مكلف بنفس الفروض، والاختلاف يكمن فقط في وظيفة كل منهما في هذه الحياة، حيث أن دور كل منهما يأتي مكملا لدور الآخر.