قضيت جزءاً من أسبوع إنفلونزا الخنازير في لبنان. لم أكن في إجازة وإنما في رحلة عمل. لست من هواة لبنان والجبل والحمص والتبولة ولا حتى السوليدير. لا أحب الطواف حول ساعة البرلمان( لا أعرف اسمها الحقيقي) ولكني كنت هناك الساعة الثانية عشرة ليلا. كل الطائفين حولها سعوديون. حاولت أن أتبين بين الحشود لبنانيا يابانيا فيتناميا دون جدوى. سعوديون من كل الأعمار والطبقات. نساء ورجالا. لم أشاهد تجمعا بهذا الكثافة في بقعة صغيرة إلا في مواسم محدودة مثل موسم السياحة في اسبانيا أو موسم الحج والعمرة في المملكة. كمية شعور الكدش على رؤوس الشباب السعوديين أكثر من كمية الصوف على جلود الخرفان الإنجليزية، وبنطلونات طيحني وسامحني يا بابا تكاد تنحدر إلى الساقين تاركة كل شيء على المكشوف . من باب الشفافية طبعا. لا أحب أن أصف فتيات السوليدير السعوديات حتى لا أشجع شباب المغازل العالميين على التحول الفوري إلى لبنان. كنت أجلس في المقهى أحتسى قليلا من القهوة. أتذكر ما كنا نقرأه عن أيام لبنان الستينيات. أطوف بالخرافة التي أخترعها المثقفون العرب حينذاك تقليدا لباريس همنجوي في العشرينيات والثلاثينيات. أوهموا أنفسهم والآخرين أن بيروت هي باريس الشرق. مجرد أن تجلس في المقهى وتشتم الحكومات العربية وأن تلبس المرأة التي بجوارك ملابس الميكروجوب والميني جوب وتصخب حولك أغاني فيروز المطلية بأنغام غربية تصبح بيروت باريس.هكذا بجرة نغم. المشكلة أن أكثر من صدقهم هم السعوديون. كنا نشتري مطبوعات دار العودة ، البياتي والفيتوري والسياب ودرويش ونزار قباني وخليل حاوي. عندما أرفع رأسي في هذه اللحظة( وأنا أكتب هذا المقال) أشاهد المجلدات الحمر التي تضم أعمال هؤلاء وغيرهم. أتذكر أيام التضليل الثقافي الكبير. الثورة ، الوحدة ، التقدم والاشتراكية. كان النفط المجرم الأكبر. كان متهما لا نعرف حتى الآن ما هي جريمته. ذهب مثقفو مقاهي الثورة والوحدة والاشتراكية وحل محلهم الكدش السعوديون . ولت الثورة وبقي النفط. سيأتي التاريخ ويصف لنا ما يجري هذه الأيام. لا أعرف ما الذي يمكن أن يقوله التاريخ عن ساحة السوليدير.. كانت مقاهي بيروت تقوم على ضجيج الشعر والشعارات والخطب والوعود ، ومقاهي اليوم تقوم على الهمسات والفساتين ورسائل الجوالات العطرية. يجمعهما الوهم والقدرة على تزييف الواقع. كلاهما اخترع حياة لا يؤمن بها. أحلام يقظة مشتركة. كان مثقفو الستينيات يأتون إلى هذه المقاهي ليتوهموا أنهم في باريس وسعوديو السوليدير يأتون إليه ليتوهموا أنهم في العصر الحديث. كلاهما يرفع شعارا لا يؤمن به. يعيشون في مقاهي بيروت إجازة صغيرة هروبا من حقيقتهم. لعل التاريخ يسجل لنا هذه الظاهرة. العرب هم الأمة الوحيدة التي اخترعت فكرة أن تأخذ إجازة من ثقافتك وإيماناتك وحقيقتك.