رغم كل الدمار النفسي والمادي الذي أصاب إنسان ومنطقة الخليج العربي إثر كارثة الغزو، إلا أن جان بودريارد لم يقتنع يوماً أن حرباً مدمّرة قد حدثت في هذا الركن من العالم، وخلفت وراءها خراباً مادياً ومعنوياً لا يمكن لأحد حتى هذه اللحظة أن يتنبأ بمضاعفاته. وكان حينها قد حايث مخاض تلك الحقبة المرعبة بثلاثة مقالات تحليلية في جريدة ليبراسيون، ابتدأها بمقالة تنبؤية عنوانها (حرب الخليج لن تقع). وبمجرد أن بدأت الفضائيات تبث ما يشبه الصور المشوشة للقصف الأمريكي كتب متسائلاً (هل حرب الخليج تحدث الآن بالفعل!؟). وما إن انتهت المعركة بهزيمة الجيش العراقي وتحرير الكويت حتى كتب مؤكداً وجهة نظره (حرب الخليج لم تقع). فكل ما حدث بتصوره مجرد ضوضاء بصرية، أو حرب صورية مصمّمة في المختبرات، ومستعرضة عبر وسائل التضليل الإعلامي، وهو بذلك لا ينفي حدوث التصادم ليعزّز نظرية المؤامرة بقدر ما أراد فضح صور الزيف الإعلامي المستلحق بجبروت البطش التكنولوجي. المهم أن الحرب انتهت باندحار الجيش العراقي، وسقوط شعارات قومية المعركة وعودة الفرع إلى الأصل. وعلى إثر تلك الهزيمة الصارخة عاد الكويتيون المشردون في بقاع الأرض إلى وطنهم، ليبدأ التراشق السياسي المزمن حول قضايا الحدود بين الجارين، وتبادل الاتهامات بشأن تقاسم الثروة النفطية، كما رُفعت رايات الثأر والانتقام، على إيقاع انقسام سياسي وثقافي عربي مخجل حول لافتات العروبة والقومية، ما بين متحمسٍ يريد التأكيد على ضرورة الاستمساك بها كحلم أو عقيدة بعد تنقيتها، وآخر مخذول يمني نفسه بالانسلاخ منها حد الكفر بمقوماتها الجغرافية والتاريخية واللغوية، مع تذكير دوري بملفات المفقودين والأسرى والشهداء أشبه ما يكون بالذريعة الموظّفة سياسياً التي صارت ترفع في المحافل الدولية بين آونة وأخرى ولكنها لا تطبّب قلوب الأمهات والأحبّة. تلك كانت المروية الرسمية، المكتوبة بفوقية ثقافية إذا صح التعبير، كما سردها الإعلام وتمت مشاهدتها على الشاشات. أما حكاية الناس المقهورين فلم تُكتب بعد، سواء من جانب العراقي أو الكويتي، إذ لم يجهر أحد حتى الآن بما حدث خلال تلك الفترة التي احتل فيها الجيش العراقي أرض الكويت واستباحها. وكأن العراقي - كعسكري وككائن اجتماعي - يريد أن ينسى تلك الحقبة السوداء من تاريخه، بنفس القدر الذي يحاول فيه الإنسان الكويتي القفز عليها، ومسحها من ذاكرته، تماماً كما لم يقارب الروائيون اللبنانيون حربهم الأهلية بما يكفي من الوعي والضمير والجمالية، وكأن العربي يخاف مواجهة نفسه أدبياً، وإلا كيف يمكن تفسير ذلك الهروب الصريح لبعض الروائيين العراقيين الذين شاركوا في عملية الغزو - كما يرددون - من مجادلة مآسيهم الفردية ونسيان كل ما تسببوا فيه من نكبات لجيرانهم وإخوانهم في العروبة والدين، خصوصاً أن الرواية العراقية تشهد طفرة لافتة مردّها السيوسيولوجي هي ويلات الحرب التي لم تهدأ منذ بداية الثمانينيات، ثم المنافي بكل حسراتها المادية والشعورية. كما صار بإمكان الفعل السردي الاستفادة من مفاعيل المكتسب الديمقراطي إثر سقوط النظام البعثي الشمولي وانفتاح لحظة التعبير الإبداعي على مصراعيها. لا يبدو أن الروائي العراقي الذي نجا من الحرب ليمارس تيهه في المنافي، يكابر في الاعتراف بخطاياه إزاء الكويتي، فهو ضحية أيضاً للعبة ومنظومة تسلّطية تفوق إرادته وحبه للحياة، ولكنه لم ينتبه حتى الآن على ما يبدو إلى فداحة الحدث، مثله مثل الكويتي الذي ما زال يعاني من الرهاب في مواجهة اختلالاته الحياتية البنيوية، والإقرار بهزيمته النفسية، وهو أمر يبدو على درجة من الوضوح في المنجز الروائي الكويتي، الذي يشهد انتعاشاً غير مسبوق هو الآخر، ومع ذلك يخلو من ملامح توثيق فترة الاحتلال، وتنعدم فيه أدنى إشارات التماس مع رعب تلك اللحظة، الأمر الذي يعني أن العراقي والكويتي ما زالا كضحيتين لآلة القهر المتمادية يمارسان حالة من الهروب – الواعي أو اللاوعي ربما - إلى الأمام، فالعراقي يتذكر عبر مقالات بين آونة وأخرى لعنة دخوله إلى الكويت على ظهر دبابة مرغماً، محاولاً التنصّل من عار امتهانه لجيرانه، ومن بؤس انقياده لمخططات نظام مركزي لا يقر أي ملمح للفردانية، فيما يتداول الكويتيون ذكريات شفهية عن بطولات وآلام تبدو بحاجة إلى أن تدوّن كوثيقة لتكون مرجعية يمكن الاتكاء عليها في قراءة الذات والمجتمع الكويتي داخل لحظة من لحظاته الحياتية الحرجة، وللوقوف على شكل الحياة حينها. قد تتقاطع سباعية إسماعيل فهد إسماعيل (إحداثيات زمن العزلة) التي وصفها بالفعل الروائي الحدثي والآني والإنساني، مع بعض عناوين كارثة الاحتلال، ولكنها لا تكفي بالتأكيد للإجابة على سر ما سماه (الشعور الطارئ بالخزي) ومعنى الانبعاث الصاخب ل (جدلية الذات والمكان) بالإضافة إلى سيل هائل من التساؤلات، وبالتأكيد لا يمكنها أن ترمّم ما تهدم من ثقة بمقومات التعايش الإنساني، فالاحتلال ليس مجرد حدث عسكري أو سياسي، ولا يكفي توثيقه بالسجل اليومي للأحداث. إنه استباحة كاملة، وهو هواء فاسد يختنق به القابعون تحت نيره، ويتحول مع الوقت وانسداد أفق الحل إلى حالة حصار يدفع ثمنها المحتلون أيضاً. ومن المهم أن يتعرف الإنسان العربي على حقيقة وهول ما حدث، فما زال الوجدان العربي منقسماً حتى هذه اللحظة، بل مسكوناً بحالة من التعصب الأعمى التي تصيب الضحية بالغيظ والنكوص على أحلام العروبة، إذ لا يريد بعض العروبيين المتعنتين التصديق أو الإقرار ربما بأن العراقي قد احتل أرضاً آمنة ونكّل بأهلها، فيما يرفض أغلب المؤدلجين المسكونين بحلم الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة التسليم بفكرة أن الجندي العراقي مجرد كائن مغلوب على أمره، وقد تم تعليبه في أيدلوجيا جوفاء لا يعتقد بأبسط تأويلاتها للجغرافيا والتاريخ، فيما يعاني الإنسان الكويتي، المثقف والمواطن اليومي على حد سواء، من عجز صريح في الترافع الأدبي عن كرامته الممتهنة، لإقناع الآخرين بأنه كان ضحية غدر يصعب التغاضي عنها، وتمرير زلزال الغزو كواقعة عادية. وأنه أبدى من (المقاومة) المعنوية والمادية ما يفرض على العالم احترامه، والأسوأ أن بعض المبدعين الكويتيين ما زالوا تحت وطأة إحباط التهميش والوعود المنكوثة من قبل المؤسسة الرسمية رغم عذاباتهم وصمودهم. ثمة حرب حقيقية ومدّمرة حدثت بالفعل. وقد خلّفت وراءها ضحايا وأوجاعاً وخرابات نفسية ومادية تحولت مع الوقت لكوابيس منغّصة. ويبدو أن الكل يحاذر الاستيقاظ على حقيقتها، أو ربما لا يريد أحدٌ أن ينكأ جراح لحظة مؤلمة وغير مستوعبة شعورياً وعقلياً حتى الآن. ولكن، ليس من اللائق أن تظل تلك الآلام عرضة للنسيان، أو مجرد أداة يترامى بها الساسة كلما تأزمت أحوالهم. وليس من الأدب ولا من الثقافة في شيء أن يظل الملمح السياسي هو الطقس المهيمن والمحرّك لواقعة الغدر تلك، وأن لا يستطيع أو ربما لا يغامر الروائيون بتمرير حمولاتهم الفنية من وراء ظهور الساسة، فقد آن الآوان لأن تُكتب مروية الضحايا من كلا الطرفين، بكل أوجاعها وخطاياها، حيث ينبغي أن تتشيأ كل تلك الحكايات والشخصيات الغائبة والمعذّبة في سرد يحفظ لها طزاجتها، فالتاريخ الأدبي يتحدث عن الحرب والاحتلال والاضطهاد كمضخات ومرجعيات سوسيولوجية للأدب الخالد، كما تشهد بذلك منتجات كبار الكتاب، إذ لا تتجلى الذات الإنسانية بكامل هواجسها إلا ضمن تلك الحقب السوداء وما يبديه الإنسان من رغبة لاستظهار آدميته. قد لا يُؤاخذ المواطن البسيط عندما يطلق العنان لأحلام يقظته للحديث بشكل تعويضي عن عجزه وخيباته وعن أوجاع لحظة محزنة ومخزية من لحظات التاريخ العربي. وقد يُشفع له ترديد مآثر بطولاته المتخيّلة، وتحفيز رغباته اللاواعية للقفز بأسرع ما يمكن على الحدث نحو اعتياداته اليومية لاستجماع وتحشيد أكبر قدر من الطمأنينة الذاتية، وكأن شيئاً لم يكن، ولكن أن يمارس الروائي الخارج من جحيم الاحتلال إلى لوعة الغربة المكانية، وحرقة الاغتراب النفسي، بطولات عاطفية ومغامرات جسدية داخل فراغ اجتماعي، وأن لا يفكر بأي شكل من الأشكال لتأوينها على خلفية كارثة الغزو، فهذا يعني أنه يريد التخفف من اقترافاته ليمارس الدوران داخل حلقة مفرغة، وأنه يعيش تحت وطأة ارتباك إبداعي ينفيه عن الواقع بما هو المرجع الأهم للأدب الأصيل، وهو بحاجة إلى مراجعة ليس لأدواته وحسب، بل لموضوعاته. إن أي قراءة تحليلية لسوسيولوجيا المضامين المجادلة في جانب عريض من منتج الروائيين المعنيين بتلك الكارثة، ستكشف عن مفارقة مرّة وهي أن أغلبهم ما زالوا موهومين بأولويات تعبيرية تنفيهم عن مكمن هام من مكامن الأدب الحقيقي، فالروائي العراقي الذي خاض حروب نظامه العبثية تمادى في نزقه وفردانيته لينتج ما بات يُعرف برواية المنفى بكل تشظياتها النفسية والواقعية وهو حقل صارت الرواية العراقية تحقق فيه نجاحات لافتة على حساب فضاءات إشكالية لا تقل أهمية، فيما يبحث الروائي الكويتي عن خلاص فردي أيضاً عائماً فوق ركام من الهموم الاجتماعية، متناسياً أن ذاته التي يتفنن في ترويضها على الانفلات لن تجد لها مكاناً أو مكانة خارج ما حدث. وليس المطلوب بالتأكيد محاكمة الذوات المفجوعة بهول الحدث، ولكنها دعوة للروائيين لإعادة ترتيب أولوياتهم، وتجاوز حالة فوبيا تدوين مأساة الغزو، أي عدم الاستئناس بخدر الذاكرة الشفهية التي لا يعوّل عليها، بمعنى ضرورة إيقاظها من هجعتها بفاعلية السرد، لأن عدم الاقتراب من ذلك المفصل المأساوي لا يعني أن الحرب لم تقع وفق مفاهيم بورديارد وحسب، بل إن الغزو ذاته لم يحدث.