وكان ذكر الموت من وسائل الوعظ والتذكير التي ابتدعها الشعراء لبيان فضيلة التمسك بالدين؛ وكان الشاعران «القرافي» و«ابن هضيب» من أشهر من استخدم هذا الموضع للترغيب في الأعمال الصالحة والترهيب بالموت وعذاب القبر والآخرة، وهما من شعراء الحجاز، عاشا في منطقة وادي الصفراء من أعمال المدينةالمنورة، وهما من بني سالم من حرب، القرافي من الحوازم وابن هضيب من الأحامدة، وقد عاشا في القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري تقريباً. والقرافي تعرض لغيبوبة استمرت أياماً ثم أفاق منها، بعد أن أُعد كفنه وهُيئ قبره، وكادوا أن يواروه التراب، إلا أنه صحا وتمثل تجربته في قصيدة طويلة استهلها بقوله: يقول القرافي قد تهيّض وقال وانراع قلبه وانشرح كل مكنون واحيرتي لما تقصّب حبال يوابات بين اللحد والطي مسجون دانواعليّه دقها والجلال والاي ما اسمع حسهم يوم يقفون فارقت خلاني ويتموا عيال يفارقت حيّاني ومن لي يودون هذه الغيبوبة أثارت مشاعره وأبانت عن ضعفه، وروعت قلبه وكشفت عن أسرار كثيرة، ووضعته في حيرة من أمره حين أعد للدفن وحين أوثق رباطه في الكفن وأودع القبر وأهيل عليه التراب، ثم ترك وحيداً يتدبر أمره إن كان يقوى على ذلك. كان القرافي متألماً لفراق الأصدقاء، وحزيناً ليُتم أبنائه، وفراق حيه العامر بالجوار والأهل والمودين. هذه هي الحياة الغالية عند القرافي، يغادرها وحيداً ثم ينصرف مودعوه سريعاً إلى حياتهم هذه، كأنهم يهربون مما ينتظر القرافي في مستودعه وعزلته مستسلماً لهذا المصير، مترقباً عقد الجلسة الأولى (حساب القبر) التي يصور وقائعها فيما يلي وجوني اثنين الكل منهم يسالِ وانراع قلبي يوم قاموا ينابون يقولون: خبّر وش معك من نوالِ لا تحسب انك بعد دنياك مصيون هذا كتابك، كل شيء يلالي ومعلق الميزان للعال والدون إنه حساب القبر الذي يدرك كل مسلم أنه حق، لقاء ينبغي أن يعد له، والقرافي في موقف المسائل وقد أعدت أوراقه وطرحت وأحضر المتسائلان أسئلتهما. وكل نفس بما كسبت رهينة وهذا ما يبينه الشاعر في قوله: أهل الوجيه البيض اهل الكمال في جنة الفردوس راحوا يخوضون وأهل الوجيه السود اهل الضلال في لاظي النيران راحو ينوحون كل يخلّص عملته بالكمال لا واعذاب اللي من الله مديون ثم يوجه نصيحة لابنه «عودة» قائلاً: أوصيك يا عودة وياشف بالي خلك على امر الله وتعيش مامون لا تمشي الا مع ثقات الرجال ترى رجال الضعف يبطون يظمون واوصيك في الجيران خلّك موالي لا بد هم بعد المجاور يشدون إلخ.. إذاً يحدد الشاعر الفضائل التي تنجي الإنسان من العذاب وتنزله منزلة الصالحين، ويحذر من مغبة الضلال والظلم الذي يؤدي إلى سوء العقاب. أما ابن هضيب الأحمدي فيمهد لعرض تجربته بمقدمة عن مشاعره عند اقتراب أجله وتذكر يوم الحساب فيقول: الروح مني كما النيران تلهبها لو كنت عند العرب كأني لحالي أفكر في الأيام ياما اقرب محاسبها أو غلني الاجل وانا حْسبت يبقى لي قالت لي: اليوم روحك ذا مواجبها والله ما اعطيك لو هو ربع مثقال انشد من اتاك من مشرق لمغربها ما فيه حي غفل ذاق من معدالي وبعد التعبير عن القلق ومواجهة النفس بعدالة السماء ينتقل الشاعر إلى ربه، داعيا إياه سبحانه لتخفيف القضاء، واصفاً يوم الرحيل وحالته في القبر: يا الله انا اطلبك طلبة وانت تاجبها يا الله يا خالق الانسان يا والي ألطف بروحي نهار الموت قاضبها نهار قبري بجوف الارض يفجالي نهار روحي على الأيمن مصلّبها نهار ما ثابني أهلي ولا مالي عشرة أراشين من دنياي كاسبها ومابقي مكسب الديان وعيالي في البيت الأخير يحدد الشاعر ما يصطحب الميت معه إلى القبر من دثار الحياة، مما أمضى حياته في جمعه من مال ومقتنيات فلا يجد من ذلك غير الكفن، وأراشين جمع ارشون مقياس متري للقماش، كان مستخدماً قبل الهنداسة والذراع والباع والفتر والمتر، ويبدو أن الارشون لغة تركية. ثم يلتقي ابن هضيب مع القرافي بتفصيل أكثر فيقول: أمسيت مقفي عن القشَّة وصاحبها وامسي قريب العدد للمال متوالي أمسيت مقفي عن الدنيا ونايبها خلاف ما اقفيت به ما عاد يبقى لي إذا ذنوبي وحسناتي بصايبها او اظنها بين كتّاب وكيَّالي أمسيت في بناية ماني مجربها أظلم علي القبر وايضا الهجر طالي قلت اوسعوا لي وهدوا من جوانبها يا حيف ذي المحاشر كيف تسخى لي قالوا هذا الحق ما نقدر ندولبها واللي نحطه لك يحطه لنا التالي ثم يلتقي مرة أخرى مع القرافي عند التوصية إلا أن ابن هضيب يوجه الوصية إلى طلاب الأجر والثواب: أوصيك يا باغي البلغة وتطلبها خلك على ما ينزل ربك العالي كمل فروضك وجنب عن مغاضبها أوصيك لا تشتقي في نم الاقوالي النفس لا ما تمنت شي عاتبها ترى من النفس يبليكم بالاهوالي واوصيك الايام لو هبت هبايبها لو زان معك الهوى في كل معدالي لو طايبت لك وشفت انك مطايبها يا غافل اصحى ترى لك سمها كالي وليا وفي حدها تاخذ قضايبها وتميل حيث انها تومر وتشتالي وفي كتاب «مرويات ابن قابل» تفصيل أكثر وأشمل للقصيدة. الذي يلفت الانتباه ثقافة هؤلاء الشعراء وإيجازهم وتلاقيهم في معالجة موضوع القصائد، وتوخيهم أنجع الوسائل لتقديم النصح والإرشاد، وهاتان القصيدتان اللتان تحدثنا عنهما لهما في بيئتهما شهرة كبيرة وترديد لأبياتهما أكثر مما كان لغيرهما من مصادر التذكير والوعظ، ولعل قصيدة ابن هضيب تلتقي مع قصيدة الوقداني في الموضوع والقافية، وربما كانت قصيدة ابن هضيب على غرار قصيدة الوقداني التي مطلعها: أيامنا والليالي كم نعاتبها شبنا وشابت وعفنا بعض الاحوال وهي قصيدة جميلة لما بها من تربية وتوجيه وتجسيد لمسار الحياة. وعلى أية حال هؤلاء الشعراء كانوا في زمن وصم بالجهل والانحراف وها نحن نرى فكرهم الديني واعتقادهم، وكانت نسبة الأمية في ذلك الزمن لا تقل عن 95٪ وفي الغالب أن هؤلاء الشعراء من الأميين، ومع ذلك نجد في تحليلهما عمقاً وثقافة دينية تنفي ما وصم به زمانهما من جهل وانحراف ديني ولو نظرنا إلى البلاد المتقدمة علمياً مثل مصر والشام والعراق لوجدنا أن بيئة الجزيرة العربية مع انتشار الأمية في ربوعها إلا أنها الأنقى في مجال العقيدة، والأبعد عن الانحرافات عن جادة الدين.