شعرت قريش بمغادرة معظم الصحابة، وأيقنت أن محمدا عازم على الهجرة لقلة ظهوره مؤخرا، فعقدت اجتماعا في (دار الندوة) قررت فيه اغتياله على أيدي قتلة من عشائر شتى، ليضيع دمه ويموت دينه ويتشتت أصحابه. ذلك هو موقف قريش، أما موقف النبي عليه السلام فعكس ذلك تماما، كان غاية في النبل والتسامح رغم الأذى الذي لحق به وبأصحابه. أمضى معهم أربعين عاما من الصدق والأمانة والخلق الرفيع حتى سموه الأمين، ثم قضى معهم ثلاثة عشر عاما نبيا لم يرفع في وجوههم سيفا، ولم يضرب أحدا منهم بحجر أو يشتمه أو يغشه أو يخدعه. قتلوا أصحابه فصبر، وعذبوا الباقين فأمرهم بالهجرة، أما هو، فبعد أن أسالوا دمه وكذبوه وعذبوه يستأذنه الملك أن يصب عليهم العذاب فيأبى ويقول: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا -مسلم) لم يكتف عليه السلام بالعفو، بل كان ملاذ أموالهم وأماناتهم.. لم يصادرها بحجة أنها أموال مشركين، رغم أنهم صادروا أموال رفاقه، بل طلب من علي رضي الله عنه أن يبقى في مكة ليرد لكل مشرك وديعته، قرر الهجرة بعد أن ترك تاريخا أبيض.. ليس بالأقوال فقط، بل فعل تقر به قريش، وسلوك يفترض بكل مسلم يعيش في بلد لا تدين بالإسلام أن يسلكه، كي يكون مصدر سعادة ووعي لمن حوله كما كان نبيه سمحاً وفياً أميناً مع أعدائه فكيف مع أحبابه.. سلوك سنه لصحابته وهم غرباء في مكة والحبشة، ومن أفضل من النبي وصحابته عليهم الصلاة والسلام؟ تسلل ذات ظهيرة نحو بيت أبي بكر، ثم حدد له موعد المغادرة إلى غار (ثور)، فكلف أبوبكر ابنه عبد الله برصد أخبار قريش في النهار وإحضارها إليهم مساء، وكلف أحد غلمانه (عامر بن فهيرة) برعي الغنم بقربهما لتزويدهما بالطعام، وسلم الناقتين لأحد الثقات العارفين بالدروب من (بني الديل) لينتظرهما على طريق غير معتاد هو طريق الساحل، وأخيراً أخذ أبوبكر كل ما تبقى له من مال لينفقه على نبيه، وقامت ابنته أسماء بقطع حزامها (فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين -البخاري) ثم توجها للجبل، وبينما كان علي ينام في بيت النبي عليه السلام اقتحم القتلة فصدموا بغبائهم، ثم انتشروا كالوباء يلهثون في كل مكان.. صعدوا الجبل، فرأوا على مدخل الغار نسيج عنكبوت فاستبعدوا دخولهما. كان أبوبكر في تلك اللحظات يشعر بالحزن على نبيه، فسجل القرآن للصديق مشاعره، حيث قال سبحانه: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه) انحدرت قريش تتصبب عرقا وهزيمة، وبعد ثلاثة أيام من البحث المرير أصيبت باليأس، لكن حقدها تفاقم، فقامت بتحريض الجزيرة العربية كلها على قتله، فأعلنت عن (مائة من الإبل) لمن يقتلهما. في تلك الأثناء وفي خيام (بني مدلج) يجلس رجل اسمه (سراقة بن مالك) فجاء رجل وأخبرهم برؤيته لأشخاص على الساحل، فطمع سراقة بالجائزة، فحاول تثبيط همة الجالسين وقال إنك لم ترهما (ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيينا -البخاري) ثم طلب من خادمته أن تجهز فرسه خلف رابية حتى لا يراها أحد، ثم تسلل نحوهما، فلما أقبل عليهما غاصت أقدام فرسه في الأرض، فأدرك أنه نبي وأنه سينتصر يوماً، فأصبح خائفا يبحث عن الأمان ويقول: (فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم (جلد) ثم مضى -السابق) عليه السلام إلى تلك القلوب التي تنتظره.