اِزداد إرهاب قريش فأشفقت إحدى المؤمنات على نبيها الذي أمسى من دون زوجة تواسيه وتخفف أجواء الكراهية من حوله، فاستأذنته أن تخطب امرأة كبيرة اسمها سودة بنت زمعة، وفتاة هي عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهم، لكن عائشة مخطوبة لابن (المطعم بن عدي) فذهب أبوبكر للمطعم ليتأكد من خطبته، فأعلمه بفسخ الخطوبة خشية أن يدخل ابنه الإسلام قائلا: (لعلك مصبٍ صاحبنا ومدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك - السيرة كما جاءت في الأحاديث الصحيحة)، لكن أجواء الكراهية تزداد، فقصة الإسراء زادت الوثنيين تكذيبا، وزادت المؤمنين إيمانا مع صلاة تقربهم إلى ربهم، وتريحهم من عناء الحياة وهمومها.. قد يتجرأ أحدهم فيؤديها عند الكعبة، فيستشيط الوثنيون، ويبدأ طرد المستضعفين، بل إن أبا جهل هدد النبي عليه السلام قائلا: (لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأنَّ على عنقه - البخاري). أبو جهل هذا يعلم أن نبينا عليه السلام صادق، وقد أقر بذلك للعباس بن عبدالمطلب فقال: (إنا كنا وأنتم كفرسي رهان.. فاستبقنا المجد منذ حين، فلما تحاذت الركب قلتم: منا نبي؟ - السابق) وقال مرة لأحد رجالات الطائف: (والله إني لأعلم أن ما يقول محمد حق، لكن بني قصي قالوا: فينا الحجابة. فقلنا: نعم. قالوا: فينا الندوة. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم. قالوا: فينا السقاية. فقلنا: نعم. ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب، قالوا: منا نبي، والله لا أفعل - السابق). إذاً فهو الشعور بالنقص، شعور حول هذا الزعيم إلى مخلوق دنيء لا يتوانى عن فعل أي شيء للنيل من النبي عليه السلام، حتى لو كان حمل القذارات. ابن مسعود رضي الله عنه يصف سلوكاً غاية في الخسة يمارسه أبو جهل عندما قال: (أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان، فيأخذه فيضعه على كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم، فأخذه، فلما سجد النبي وضعه بين كتفيه، فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل إلى بعض، وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله، والنبي ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته: اللهم عليك بقريش.. اللهم عليك بقريش.. اللهم عليك بقريش) (اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط - السيرة، السابق). (فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته)، أما عقبة ف (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه، فخنقه به خنقا شديدا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم - البخاري) أي مصير ينتظر أمة ينشغل زعماؤها بالتفتيش في المزابل وحمل المشيمة بأيديهم ليرموها على ظهور خصومهم، لقد فقد هؤلاء القوم رجولتهم وأخلاق عروبتهم، وانحط مستوى الخصومة عندهم إلى الحضيض، ومع هذا لم يأمر عليه السلام أصحابه بأي عمل مسلح ضدهم، وهم على استعداد لذلك لو أمرهم، لكن سنته تضيء لهم ولمن بعدهم أن المسلم يهزم الإرهاب بكلماته المقنعة وبصبره وسماحته مع عدوه، فإن عجز عن الصبر فعليه أن يغادر البلاد التي تضطهده، كما أن عليه أن يحترم البلاد التي تؤويه ويرد الجميل لها بأجمل، كما فعل الصحابة المهاجرون للحبشة، هذا هو هدي النبي عليه السلام، ولذا ظل يبحث عن نفوس طيبة على مدى عشر سنوات، يبحث عن عقول أكثر تحررا وتسامحا.. وعن أقوام لا تصيبهم (لا إله إلا الله) بالجنون.