من الأمور التي تلفت النظر لدينا تشجيع التقاعد في سن الستين أو قبلها، خاصة في القطاع الحكومي، بما في ذلك المهن العلمية والفنية المتخصصة، ووظائف التعليم والطب والقضاء. وهناك عدة مبررات تساق أحياناً لدعم هذا التوجه، كمعالجة البطالة، وضخ دماء جديدة في المؤسسة، وخفض النفقات. وتسمع أحياناً نقداً مبطناً أو معلناً لكبار المسؤولين الذين يظلون في الخدمة بعد تجاوزهم سن الستين. وكانت سن الستين قد حُددت كسن للتقاعد في القرن الماضي، باعتبارها كانت تتزامن مع تردي صحة الموظف وإجهاده وعدم قدرته على العطاء، ولكن التقدم الكبير في المجال الطبي جعل من هذه السن منتصف العمر تقريباً، بل أصبح من الممكن الآن للمصابين بالأمراض المزمنة مثل ارتفاع الضغط والسكر وأمراض القلب أن يستمروا في العمل دون انقطاع إلى سن متقدمة فوق الستين بكثير. وتذكرتُ هذا الجدل حينما شاهدت مؤخراً مقابلة مطولة أجرتها القناة العامة الأمريكية PBS مع ثلاثة من مشاهير الاقتصاديين الحائزين على جائزة نوبل، هم بول سامويلسون، وروبرت سولو، وروبرت ميرتون، وتركز الحديث في البرنامج على الأزمة المالية العالمية، ولكن تخللته بعض القضايا الشخصية، على سبيل المثال حينما سُئل سامويلسون، البالغ من العمر أربعة وتسعين عاماً، متى ينوي التقاعد. فكان جوابه مازحاً بأنه لا يحس بأنه قد نضج بعد، وحينما يفعل سيفكر بالتقاعد! وأذكر خلال دراستي في جامعة كولومبيا أن عدداً من الأساتذة فيها قد تجاوزوا الثمانين وهم ما زالوا في قمة عطائهم، مثل لويس هينكين (أستاذ القانون الدستوري) الذي احتفلنا ببلوغه الثمانين، وأوسكار شاختر (أستاذ القانون الدولي) الذي احتفلنا ببلوغه الخامسة والثمانين، وكان من مؤسسي هيئة الأممالمتحدة. وكنتُ سألت هينكين مرةً هل غير شيئاً من أسلوبه في العمل بعد بلوغه ذلك العمر، فقال مبتسماً إن الشرط الوحيد الذي وضعه للجامعة حينما طلبت منه الاستمرار هو ألا يشرف على أي رسالة دكتوراه بعد سن السبعين، لأن الحياة أثمن من أن تُقضى في مثل هذه المهمة حسب قوله! وكان هذان الأستاذان طوال فترة معرفتي بهما متميزي الأداء مقارنة بزملائهما الأصغر سناً، أكثر حرصاً على إعطاء مهنة التدريس حقها، وأقل انشغالاً بالاستشارات الخارجية التجارية وغيرها، فضلاً عن خبرتهما الطويلة والأبحاث المعمقة التي أنجزاها. ولهذا فإن فكرة التقاعد الإلزامي في سن مبكرة نسبياً قد تحرم المجتمع من أفضل خبرائه، ومن الممكن بطبيعة الحال ترك الأمر لتقدير المسؤول الأول في المؤسسة، مثل الوزير أو مدير الجامعة، أو وضع ضوابط معينة، مثل حاجة المؤسسة إلى خدمات الموظف، واجتياز فحوص طبية كل خمس سنوات.