الشيخان البخاري ومسلم قضيا حياتهما في البحث عن الأحاديث الصحيحة وتصنيفها . وكان أحدهما قد يسافر لشهر أو شهرين ونعرف مشقة السفر في تلك الايام للتأكد من صحة حديث واحد .. اما هذه الأيام فيملك شخص مثلي قرصا منسوخا ( ب 10 ريالات ) عليه جميع كتب الاحاديث والتصانيف ويستطيع استخراج مايريد ب"طقة زر" .. وهذا المثل لوحده يثبت أن غزارة وليس قلة المعلومات أصبحت هي المشكلة وليس الحل .. بل ان غزارة المعلومات في العصر الحديث أحدثت شرخا في النظرية الفلسفية العريقة القائلة بأن ( المعرفة تقلل الشك ) .. فبعد ظهور الانترنت وثورة المعلومات وأقراص الليزر يحق لنا التساؤل : عن أي نوع من المعرفة يتحدثون ؛ وهل هناك فرق بين المعلومة والمعرفة ، وكيف نتعامل مع الطوفان الكاسح للمعلومات هذه الأيام !؟ فنحن نعيش بالفعل في عصر انفجرت فيه المعلومات كطوفان هائل يكتسح كل شيء ؛ وغدت مشكلتنا هذه الايام ليست في قلة المعلومات بل في انها تتدفق بكميات اكبر من قدرتنا على معرفتها واستيعابها .. فحتى مائة عام مضت كان الناس أميين مقتنعين بمعارفهم المحدودة والبسيطة ؛ اما اليوم فكثرة المعلومات وتعدد الآراء جعلت الانسان مشوشا في نواح عديدة .. انظر كم رأيا للاطباء والسياسيين ورجال الدين وكم نصيحة يلقيها الخبراء في الصباح ويلغونها في المساء لدرجة تحول تدفق المعرفة الى عامل شك وليس يقينا !! فقبل عصر الطباعة كانت المادة المكتوبة عزيزة و " ثقيلة " وتعامل بنوع من القدسية والقبول التلقائي ؛ ولكن ما ان طبع يوهان غوتنبرج اول كتاب (في القرن الخامس عشر) حتى بدأ الكتاب ينزل من عليائه وتصبح المعلومة بسعر الورق الذي تطبع عليه .. في كل عام يطبع من الكتب مايفوق سكان الارض ، ومن الورق مايغطي المحيطات واليابسة . ولو افترضنا ان احدنا عاش لمائة عام وقرأ في كل يوم كتابا فلن يُنهي اكثر من 36 الف كتاب ! ولمن لايعشق القراءة الجادة هناك ملايين المجلات والصحف الصفراء وتسعة ملايين محطة "مهضومة" تبث ما يناسب كل عقل ومزاج .. وما أن بدأنا باستيعاب الوضع حتى اتت الداهية الكبرى "الانترنت" التي اكتسحت الجميع بجاذبيتها وتنوعها وأرشيفها الهائل .. وهي بدون شك نافذة غير محدودة لايمكن مقارنتها بأي مكتبة ورقية كون موقع واحد فقط (مثل مكتبة الكونجرس) يوفر 25 مليون كتاب واعظم سبعة مواقع توفر 100 مليون كتاب البحث في أي منها أسهل من البحث في مكتبتي المتواضعة ! ... وأمام هذا الطوفان المتدفق من المعلومات اتخذ (بعض الناس) آلية دفاعية بدائية وبسيطة .. فبدلا من "وجع الدماغ" ومتابعة مايستجد احاطوا أنفسهم بشرنقة ثقافية محدودة ومعلومات بالكاد تسير حياتهم اليومية . فقد ادركوا (بغريزة البقاء) ان كثرة المعلومات وتضارب الأفكار سيخلخلان أفكارهم المتوارثة ويسببان خللا في مفاهيمهم المتناسقة .. وهكذا تبلور لديهم مبدأ التشكيك المريح والانعزالية السعيدة كأسهل خيار لمواجهة تدفق المعرفة وعدم المشاركة في صنع المصادر الحديثة !! ... وفي الحقيقة لو عرفوا ما بجوجل لحاربونا عليه بالسيوف...