الإسلام مملكة الإيمان وإمبراطوريته التي عمت الدنيا ووصلت إلى كل شبر فوق هذه الأرض، هذه الإمبراطورية تتعرض اليوم وبشكل استثنائي إلى وخزة في خاصرتها تتمثل في نشوء ظواهر تنبئ عن عجز في تفسير ماهية الإيمان الذي قامت عليه إمبراطورية الإسلام منذ أن نزلت على نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم. خلال القرن الماضي وتحديدا في العقد الأخير منه تصاعدت وتيرة التشدد بين كثير من معتنقي الإسلام بفعل أحداث عالمية وتقارب دولي ساهم في زيادة الاحتكاك بين الشعوب ومن ثم بين الأديان. هذا الاحتكاك أنتج إشارات فكرية وتساؤلات سياسية واجتماعية وثقافية حول علاقة الأديان ببعضها وعلاقة الشعوب ببعضها ومسؤوليتها عن بعضها وكان لابد من مواجهة هذا الاحتكاك بمنهجية واضحة في تفسير موقف الأديان من بعضها وهذا ما لم يفعله المسلمون وما لم تفعله الأديان الأخرى ولم يوجد هناك إشارات مشتركة بين دول العالم لحل هذه القضية. لقد شهدت العشرين سنة الماضية تحولات كبيرة في فهم علاقات الأديان والشعوب مع بعضها بعدما كانت تلك الأديان لا تسمع إلا في محيطها المحلي ولذلك كانت تقول ما تريد عن الآخرين دون حذر، في العقود الماضية لم تعد هذه الحقيقة موجودة فالتقارب والعولمة والاتصال الثقافي بين الشعوب ساهم في صياغة الاحتكاك بشكل جديد مما أنتج ظواهر لم تكن متوقعه. لقد ارتفع صوت هذا الاحتكاك وأنتج ظواهر كثيرة منها التشدد والتطرف ومن ثم الإرهاب وذلك تعبيرا عن ردة فعل محتملة نتيجة لتقارب ثقافات وديانات العالم مع بعضها. الغريب في القضية أن انتشار الإسلام في بداياته ووصوله إلى كل بقاع الدنيا لم يكن يثير المشكلات فقد كان يصل بطرق مقبولة قائمة على احترام حريات الآخرين ودياناتهم كما أن الإسلام في ذلك الزمن تميز بقدرته على التعايش مع كل المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلدان التي يصل إليها. المسلمون اليوم لا يقبلون هذه الحقيقة التي قبلها أسلافهم من قبل فالمتتبع للحركات الإسلامية والثورات السياسية ذات الطابع الديني يجد أن أهداف تلك الحركات والثورات يتمثل في عدم التعايش مع كل مختلف أو مخالف فكل الأهداف تسعى إلى مسح الآخرين ونسف ثقافتهم وتاريخيهم واستبداله بأفكار حركية اقصائية. المتابع لتاريخ الحركات الإسلامية خلال القرن الماضي لا يجد بين أهدافها قضية نشر الإسلام كديانة إنما يجد أن الهدف الأول والأخير لتلك الجماعات هو تكوين كيان سياسي ذو مواصفات بعينها ثم بعد ذلك حرب الآخرين لإخضاعهم والسيطرة عليهم. هذه هي فلسفة الحركات والثورات الإسلامية وهذا ما جعل إمبراطورية الإيمان التي سادت كل بقاع الأرض تتراجع ويبحث المسلمون الصادقون عن مخرج لتحسين صورتها. هذا التصور الذي اطرحه هنا ليس لب المقال أو فكرته بقدر ما هو تمهيد لفكرة المعادلة التي أدت بإمبراطورية الإيمان إلى التراجع فكريا وثقافيا أي إلى تراجع في (الكيف وليس الكم). ليس هناك شك أن التقارب بين ثقافات العالم أنتج الكثير من الظواهر السلبية على العالم اجمع وعلى الديانات جميعا، ولكن الوقوف عند نقد هذا التقارب لا يحل المشكلة لان العالم يتجه إلى تقارب أكثر، رضينا بذلك أم لم نرض. لذلك لابد لنا من البحث عن أفكار جديدة لإعادة إمبراطورية الإيمان إلى موقع الاحترام الذي حضيت به في تاريخيها عندما وصلت إلى أقصى بقاع الأرض. السؤال المهم يقول: هل نحن قادرون على فهم معادلة التطرف والتشدد والإرهاب من اجل أن ندرك كيف نعيد لإمبراطورية الإيمان هيبتها..؟ خلال العقود الماضية نشرت الأفكار المتطرفة والمتشددة فكرة أن هيبة الإسلام لن تأتي سوى بالقتل والحروب من اجل السيطرة على العالم، ونسيت هذه الأفكار أن الإسلام انتشر بالأخلاق والقيم والتعامل حيث لم يكن هناك حروب أو اغتيالات أو إرهاب أو تشدد وتطرف فوق المنابر والصفحات الالكترونية. إن معادلة التطرف في مجتمعاتنا تتمثل في التالي: لقد تم تكثيف المتطلبات الدينية من عبادات وتاريخ وجغرافيا وأفكار على اعتبار أن ذلك هو الإيمان ومماثلة الأسلاف في مقابل اختلاف متطلبات الحياة الحديثة ونمطها وجعل التكيف مع متطلبات الحياة الحديثة خروجا عن دائرة الإسلام ومتطلباته. إن وضع إمبراطورية الإيمان في موضع عدم القدرة على التكيف مع الواقع هي من أنتج لنا الالتزام والصحوة ومن ثم التشدد في تطبيق الدين ومن ثم تطرف في فهم التاريخ وجغرافيا الإسلام و العبادات وأخيرا ممارسة الإرهاب لحرب الواقع. هذه هي المعادلة التي يجب أن نفهمها بشكل جدي ومن هنا يجب أن نبدأ بإعادة إنتاج إمبراطورية الإيمان التي سادت بقيمها وليس بتشددها وتطرفها وفهمها الانتقائي. نحن في زمن يصعب أن نكرر فيه التجربة الإيمانية التي سادت في أسلافنا بل يستحيل، وهذه ليست فكرتي، إنها فكرة جاءت على شكل حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث خير القرون. المسلمون اليوم وخاصة الشباب منهم والذين نهجوا منهجا متشددا أو متطرفا أو اتجهوا إلى ممارسة الإرهاب إنما يعبّرون عن عدم قدرتهم على التكيف مع الواقع وذلك استنادا إلى ما يحملونه من تعليم غير قادرة على التكيف مع الحياة الحديثة. لذلك تضاعفت لديهم كمية التشدد ومن ثم التطرف وبعضهم انقاد إلى الإرهاب والانتحار الذي ينتج عن (اختلال المعايير) كما يذكر ابرز علماء الاجتماع وهذا ما يحدث فعليا. هذه المعادلة سابقة الذكر هي منطلقنا لتحقيق عودة إمبراطورية الإيمان إلى حقيقتها وهذا ما نسميه الوسطية حيث نسأل دائما: ماذا نقصد بالوسطية؟ وكيف نصل إليها؟ الوسطية ليست وقوفا في منطقة رمادية بين متشددين، إنما هي قدرة على نسف ما يعتقد بأنه لا يمكن تغييره، أو إعادة دراسته وتحليله. الوسطية هي تحقيق التوازن بين العبادات والفتاوى والأفكار والتراث وبين الحياة الحديثة التي وُجدت فيها دول وحدود جغرافية ويوجد فيها منتجات ثقافية وتقنية ويوجد فيها تلفزيون وسينما ومسرح وسيارات وطائرات ورجال ونساء يعملون من اجل كسب لقمة العيش ويتحركون وينتجون من اجل مجتمعهم. إن الوسطية بغير هذا المفهوم ما هي إلا مهدئات سوف يعتاد الجسد الثقافي في مجتمعاتنا عليها وقد يتجاوزها بطرقه المثيرة ثم نجد أنفسنا أمام موجه جديدة من التشدد والتطرف والإرهاب.