مع انتشار الطلاب المبتعثين في عدة دول في خطة استراتيجية مهمة، يتبادر إلى الذهن الدور الذي تقوم به السفارات، والملحقيات الثقافية في الدول التي يدرس فيها الطلاب، ومسؤولياتها في المتابعة، والدعم، وحل المشكلات وتنظيم الأنشطة والفعاليات المختلفة. وبالنظر إلى حجم الابتعاث يمكن القول إن هناك حاجة تدريبية للعاملين في السفارات والملحقيات في مجال تطوير مهارات التعامل وتحسين مستوى الخدمات للطلاب المبتعثين. وعند تصميم حقبة التدريب سوف تحتوي على الأسس والمفاهيم المعروفة في أدبيات الموضوع. ومن العناصر التي تقوي التدريب وتثري الحقيبة التدريبية في كافة المجالات ومنها العمل الدبلوماسي، دعم الجوانب النظرية بتجارب فعلية من رواد كان لهم خبرات وممارسات ناجحة. بعض تلك التجارب تم رصدها وتحليلها بواسطة بعض المهتمين، ومن ذلك مايرتبط بموضوعنا اليوم بشكل مباشر وهو سيرة السفير محمد الشبيلي (أبو سليمان)، التي وفق د. عبد الرحمن الصالح الشبيلي في رصدها وإخراجها بما يليق بسيرة ذلك الرجل النادر. وحيث إن حديثنا اليوم عن المبتعثين فقد اخترت موضوعاً عن الابتعاث لإطلاع القراء والعاملين في السفارات والملحقيات على قصة يرويها طالب سعودي مبتعث كان يدرس الطب في باكستان في الوقت الذي كان فيه الشيخ محمد الشبيلي سفيراً هناك: في عام 1382ه (1962م) ابتعثت مع عدد من الشباب من مناطق مختلفة من المملكة لدراسة الطب في باكستان، وقد حطت بنا الطائرة بعد منتصف الليل في مطار كراتشي، ولانعدام التجربة والخبرة ولأنها المرة الأولى التي نسافر فيها للخارج فقد طلبنا من سائق سيارة الأجرة التوجه بنا -في ذلك الوقت من الليل- إلى السفارة السعودية. طرقنا باب السفارة قبل الفجر، فتح لنا الحارس، فأخبرناه أننا طلاب قادمون إلى باكستان للدراسة، ولأن الحارس يعمل لدى الشيخ محمد ويعرف سجاياه، والتعليمات لديه واضحة وصريحة، فقد استقبلنا بالترحاب، ولم ينصحنا أن نذهب إلى أحد الفنادق (والصباح رباح) كما يفعل الآخرون في أحسن الظروف، بل هيّأ لنا مكاناً للنوم، وفي الصباح استيقظنا لنتناول الفطور في معيّة الشيخ محمد، الذي استقبلنا ببشاشة وجه وانطلاق محيّا، مبدياً غبطته بوصولنا. وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك إشعار رسمي لدى السفارة عن ابتعاثنا على نفقة الدولة، إلا أنه ظل يأمر بصرف مكافأة شهرية لنا لعدة شهور حتى وصلت قائمة بأسمائنا من وزارة المعارف. وقد حرص تماماً، كما يفعل الأب الحاني الذي يخشى على أبنائه في هذا السن المبكر من الطيش والانحراف، على أن نسكن في القسم الداخلي التابع لكلية الطب، وفي أحد الأيام اتفقت سراً واثنان من زملائي، على الخروج من السكن الداخلي واستئجار شقة، ثم ذهبنا إلى السوق لشراء بعض الأثاث اللازم، وبحثنا عن سيارة لنقله فلم نجد سوى عربة "كرّو" كبيرة يجرها جمل، وحاولنا إفهام صاحبها بالعنوان ولكن دون جدوى، فكل ما يعرفه هو عنوان السفارة السعودية، ولما كانت الشقة قريبة منها فقد اتفقنا على أن نلتقي عند مبنى السفارة. ركبنا (ركشة) وهي دراجة نارية تستعمل للنقل بالأجرة، ووصلنا إلى مبنى السفارة وإذا بالشيخ محمد يرانا عند الباب (وعندما يراك، فمن العبث أن تحاول التهرب منه مهما كان عذرك)، أخذنا إلى مكتبه وأمر بالشاي والقهوة وأخذ يجاذبنا أطراف الحديث تارة وينهمك في إنجاز المعاملات الموجودة على مكتبه تارة أخرى، ونحن على أحر من الجمر ومضت ساعتان أو أكثر ثم قال: أنا ذاهب إلى المطار لأستقبل ضيفاً، وقبل أن نتنفس الصعداء أردف قائلاً: هيا معي، وخرجنا بصحبته، وإذا بصاحب العربة قد أناخ جمله عند باب السفارة، وشاء الله أن يمر في تلك اللحظة السفير اللبناني بسيارته فلمحه الشيخ محمد واستوقفه وصحبه إلى مكتبه، وبذلك تمكنا من الانطلاق، ولكنه عندما عرف فيما بعد عاتبنا برقة، لها مفعول الشدة، فعدنا إلى القسم الداخلي. وفي ذلك الوقت كان يحق للطلاب المبتعثين الحصول على تذكرة لزيارة ذويهم مرة كل سنتين، ولكننا عندما أمضينا سنة دراسية واحدة شدنا الحنين إلى الأهل والوطن، فقررنا أن نعود إلى المملكة للزيارة على إحدى البواخر (لأن قيمة تذكرتها أرخص) وذهبنا إليه لنخبره بما قررناه، فما كان منه إلا أن قال: اذهبوا بهذا الكرت إلى مدير مكتب الرحلات البحرية وسوف يساعدكم. وقد فوجئنا بوجود تذكرة بالدرجة الأولى لكل طالب ( وكان عددنا عشرة فيما أذكر) أصدرت على نفقته الخاصة، فاشترينا بالمبلغ الذي خصصناه للتذكرة بعض الهدايا، وقضينا ثمانية أيام ممتعة في البحر بين كراتشيوجدة عبر باب المندب. كان يمضي مع الشباب الساعات الطوال متحدثاً إليهم بأسلوبه القصصي الممتع، عن الرجولة والشهامة والمسلك الحسن، ويسدي لهم النصائح ويوجههم إلى الطريق القويم، وما أحوج الشباب في تلك السن (خصوصاً عندما يكونون بعيدين عن الأهل والوطن) إلى من يوجههم. أستطيع أن أقول بحق إن الفضل يرجع -بعد الله- إليه في مواصلتي وكثيرون غيري للدراسة، بتوجيهه السليم وتذليله لما كان يعترضنا من عقبات.