من شؤون الله في خلقه أن زوّد كل إنسان بموهبة أو مهارة بها يرسم لنفسه دوراً بين بني جنسه، وبها يخوض المعتركات ويبلغ الهامات ويعانق الألق، فيتشرب من سلسبيل الإبداع، ويتروّى من نبعه الزلال، ويشق لنفسه وللإنسانية طريقاً سوية آمنة إلى غدها الباسم الفاتن. كل إنسان وهو يركب قطار الحياة، يظل دائم الإحساس بموهبة غياهبه تغالبه وتهز مكامنه، تتمرد عليه معلنة عن ذاتها، كأني بها تتحين فرصة انفلاتها من عقال جسدها، أو تتصيد مغيثاً يحررها من سياجها، ويخرجها إلى الوجود، ويظل يترقق بها ويرعاها ويوجهها إلى أن يصلب عودها وتبلغ عنفوانها، فتنير سبيل صاحبها وتأتيه من خيرها بالكثير، وتضيء الآفاق للآخرين وتهديهم إلى اتجاه الرشاد. هذه الموهبة المتأصلة فينا، تظل تشحننا بطاقة جسمية ونفسية وعقلية وروحية، وتكسبنا قوة خارقة على الإقدام والفعل. وقد يجد الإنسان في نفسه أو في غيره أو في محيطه الخاص أو العام مَن أو ما يساعده على تفتيق موهبته وتحرير طاقته، فيأخذ حينئذ بشروط النجاح، وتحلق نفسه في عالم التميز. وقد يخفق لأسباب تتعلق بالبيئة السائدة في تحريرها والاستفادة منها، فتبقى بين جنباته حبيسة دفينة إلى أن تتهالك وتخمد جذوتها، ويقع صاحبها طعماً للفشل واليأس والإحباط. إذن يمكن الجزم بأن مواهبنا متى تحررت، وأن طاقاتنا متى انطلقت، تفجرت ينابيع إبداعنا في مناحي الحياة بأسرها حسبنا منها المناحي العلمية والأدبية والفنية والفلسفية، وإنا لنا في عباقرة الإنسانية ونوابغها لدروساً ناصعة وعبراً ساطعة. فبتحريره لمهارته العقلية وتطويره لطاقته الذهنية، استطاع إسحاق نيوتن الربط بين سقوط التفاحة ودوران القمر، واستطاع اينشتاين وضع تفسير هندسي لمفهوم الجاذبية، واستطاع فلاسفة وأدباء ورسامون وموسيقيون وسنمائيون ورياضيون بلوغ قمم الإبداع، واستمرت كل الطاقات الإنسانية المعتوقة عبر العصور والأمصار في الإعلان عن نفسها، والتعبير عن ذاتها، ومراكمة إنجازاتها إلى يومنا هذا، وما الثورة العلمية والتكنولوجية الشاملة لجميع مظاهر الحياة إلا نموذج حي لتلك الطاقة الجبارة التي اخترقت العقل البشري، واكتسحت حياة الشعوب في مغارب الأرض ومشارقها. إن اكتشافنا لمواهبنا وتطويرنا لمهاراتنا يعطيان نفوسنا من أكسجين الإبداع ما ينعش طاقاتنا الكامنة ويفجرها، فإذا هي في تناثرات إبداعية نورانية تشكل سمو المنجز الإبداعي، وإذا بنا معشر الأقوام نشْده أمام عروض فنية متفردة ملهمة تستبطن موهبة منبعثة من أعماق الوجدان وأغوار الأذهان، منطلقة سابحة في عالم الجمال، تصبغ الوجود وتشكله في رُؤى حالمة وبلغة ساحرة معبرة عن نقاء الروح وصفاء الحياة، متطلعة إلى عالم الكمال والوئام. فالإبداع هو فعلٌ أخّاذ لمهارة متمردة لم تعبأ مطلقاً بقيود الزمان والمكان وسائر خطوط الاحمرار، مهارة كلما تحررت رفرفت في الفضاء الرحيب، وحلقت في الكون الخصيب، وتحسست نافذة على المستقبل لتستكشف الأسرار، وترسم الاتجاهات السليمة للحياة القويمة. غير أن ما يشعر بالألم في محيطنا ويبعث على الكدم في مجتمعنا، أن تلقى المهارة أو الحالة الإبداعية أحد مصيرين مشؤومين: إما أن يسكن نبضها وتخمد جذوتها داخل الجسد بفعل العجز عن تحريرها أو لعدم اكتشافها وتفجيرها. وإما أن تتكسر على صخور المجتمع بفعل سيول القمع والمنع وسائر الحواجز السارية في العادات والتقاليد. ففي هذين المآلين تضيع المواهب، وتتبخر الطاقات، وتظل الذوات في خسرانها وانحدارها، ويظل المجتمع في بواره وانكساره، وتتجه حياة الإنسان بالنتيجة نحو الكساد والفساد. من هنا أخلص إلى القول، أن مجتمعاتنا مدعوة اليوم - إذا كانت فعلاً معنية بصناعة المستقبل وتشييد صرح الكرامة الإنسانية - إلى اعتماد متخصصين في اكتشاف المواهب لدى ناشئتنا وعامة مواطنينا، والعمل على تطويرها وإطلاق العنان لها لتحلق في سماء الإبداع بعيداً عن سياسات كبح الأجمحة ومعاداة الحرية، ولست أدري إن كنت بصرختي هذه أدوي في الأودية أم سألقى بعدها لدى ذوي الآذان الصاغية والعقول الحاصفة من يكون نصيراً للمواهب الضائعة والطاقات المهدرة.