حالتان يدفعان الإنسان إلى التعلُّم بصدق وشغف: الحالة الأولى أن يكون مدفوعاً بتساؤل ذاتي يحيِّره ويقلقه ويبحث له عن إجابة شافية أما الحالة الثانية التي يندفع فيها المرء إلى التعلُّم فهي أن يكون الموضوع مجال الدراسة أو البحث يستهويه تلقائياً ويستمتع به ويجد فيه ذاته ويستشعر معه بأنه يبذل نشاطاً نافعاً وأنه يكتسب معرفة مهمة وأنه قد أمسك بخيوط المعنى وأنه بصدد تكوين رؤية ذاتية حول الوجود والإنسان والكون والحياة وحول الفرد والمجتمع وأي تعليم لا يأخذ باعتباره هذه الحقيقة الأساسية سوف يكون مصيره الفشل وسيغرس في المتعلمين كُرءه العلم وكل ما يمتُ إليه بصلة كما هو واضحٌ من تمزيق الكتب المدرسية والتخلص منها باشمئزاز بعد الفراغ من الامتحانات. إن الإنسان لا يتعلم إلا إذا كان مهتماً ذاتياً وبشكل تلقائي بقضية معرفية تقلقه أو كان شغوفاً بمجال يشدُّه لأنه في هذه الحالة يكون تعلُّمه استجابة لرغبة ذاتية بحثاً عن متعة المعرفة التي تلذُّ له أو طلباً لإجابات شافية أو مطمئنة لأسئلته الحائرة المقلقة الحافزة لذلك فإن المطلوب من التعليم النظامي أن يكون مغرياً وشيقاً وأن يطرح الأسئلة المثيرة والصادمة والمقلقة أكثر مما يعطي الإجابات المريحة والمنيمة التي توهم بالكمال والاكتفاء وتؤدي إلى الاطمئنان والتكاسل والاسترخاء. أما إذا كان التعليم تلقيناً رتيباً وثقيلاً ويقينياً وفوقياً ويدَّعي امتلاك الحقيقة المطلقة ولا يتيح فرصة المشاركة والتغذية المرتدَّة أو كان غير مثير ولا مستفز ويستبعد التساؤل ويستنكف من الشك ويستريب من الأفكار الجديدة ويستنكر الاهتمامات المغايرة فإنه يقضي على الرغبة الذاتية ويُخمد الاهتمام التلقائي لذلك يلاحظ أن الموهوبين يضيقون بالتعليم النظامي خصوصاً في الثقافات المغلقة لأنه لا يجيب على تساؤلاتهم الحادة ولا يعتني باهتماماتهم الذاتية التلقائية ويجدونه مشغولاً بما لا يهمهم بل يشغلهم عن اهتماماتهم الملحَّة فيضطرون إلى مجاراة المنهج الدراسي داخل المدرسة أو الجامعة من أجل الامتحان أما إذا خرجوا فإنهم يواصلون البحث باهتمام تلقائي قوي وعناية ذاتية تامة في الموضوعات التي تشغل أذهانهم وينهمكون في المجالات التي تهمهم ذاتياً ويحرصون على الاستقصاء في المصادر التي تُشبع احتياجاتهم العقلية والوجدانية المتلهفة. لذلك فإنه ليس غريباً أن يكون الغالب على المتميزين أنهم يضجرون من الأجواء المدرسية الخانقة فيهجرون التعليم النظامي منذ مراحله الأولى كما هي حال جون استيورات ميل وبرنارد شو وأديسون وهنري جيمس وهمنجواي ومورافيا وهربرت ريد وشارلي شابلن وتولستوي وأندريه جيد وأناتول فرانس وروسو وغيرهم وبذلك ينقذون أنفسهم من الملل والضجر المدرسي ويفرون بمواهبهم عن الإرباك المبكر ويهربون من البرمجة الكليلة التي تفسد العقول والعواطف فيفرغون لأنفسهم ويستثمرون الوقت والجهد والاهتمام في تحصيل المعرفة التي يحسون أنهم بحاجة إليها ويستفرغون طاقاتهم في اهتماماتهم الذاتية التلقائية فيبحثون عن الإجابات المقنعة لتساؤلاتهم الملحة ويهتمون بما يهيئهم لحياة حرة ناضجة. ولكن يوجد من المتميزين من يكرهون التعليم النظامي لكنهم يواصلونه حتى النهاية وهؤلاء هم الأقدر على تقييمه ويكون لشهادتهم أهمية خاصة فالكاتب النمساوي الشهير ستيفن زيفايج لم يهجر الدراسة كما يفعل أمثاله من المتوقدين وإنما قد اضطر إلِى مواصلة الدراسة حتى حَصَل على الدكتوراه ليس اقتناعاً بهذا الاستمرار وإنما اضطر اضطراراً لإرضاء أهله لكنه لم يحتفظ للدراسة النظامية إلا بأسوأ الذكريات وأمرَّ المواقف وقد سجَّل ذلك بمنتهى الوضوح بمذكراته التي تحمل عنوان: (عالم الأمس) يقول: "إن فترة تعليمي كلها لم تكن إلا سأماً موصولاً مرهقاً.. صاحَبه تَلَهُّفٌ متزايد سنة بعد سنة إلى الفرار من هذه الرتابة المضجرة ولا أذءكُر أنني كنت في أي وقت هانئاً أو سعيداً خلال فترة تعليمي الغليظة الخاملة التي أفسدت تماماً أفضل مراحل العمر وأكثرها انطلاقاً" إن هذه شهادة صارخة ودامغة للتعليم النظامي الرتيب المنغلق من مثقف كبير اشتهر بشغفه الشديد بالفن والعلم ويحتفظ له العالم بمكانة عالية ومعروفٌ بعمق معارفه واتساع اطلاعه وتنوُّع اهتماماته كما أنه معروف بقدراته الإبداعية الفذة وقد تميز بغزارة إنتاجه وبتنوع مجالات هذا الإبداع لكنه بكل هذه الصفات والمزايا يدين التعليم النظامي إدانة قاطعة رغم أنه اضطر لمواصلته حتى نهايته القصوى فلم يكن التعليم النظامي الرتيب المنغلق بالنسبة له سوى سأم موصول مرهق مصحوب بلهفة عارمة إلى الفرار من ضجره وهي شهادة تؤكد أن الموهوبين حتى لو واصلوا التعليم النظامي فإنهم يعتبرون أنه سَلَب منهم أفضل مراحل أعمارهم وصَرَفَهم عن اهتماماتهم الذاتية التلقائية التي تشغل عقولهم وهذه خسارة كبيرة فالعمر واحد لا يتكرر والسنوات التي تضيع منه لا يمكن تعويضها. إن هذا المبدع المدهش قد واصل التعليم النظامي حتى النهاية ليس رغبة فيه ولا اقتناعاً به وإنما كان كارهاً له سئماً منه ولكنه كان مضطراً لهذا الاستمرار استجابة لرغبة أهله الذين ينحصر اهتمامهم في أن يحمل لقب دكتور بغض النظر عن الهدف المعرفي وعن ذلك يقول: "كانت العائلات الميسورة جميعها تهتم اهتماماً كبيراً بأن يتعلم أبناؤها ولو لأسباب اجتماعية بحتة.. ولذلك كان طموح كل أسرة أن يوضع لقب دكتور أمام اسم واحد من أبنائها على الأقل" ويقول: "إن دراستي في الجامعة كان قد قررها من البداية مجلس الأسرة كانت المسألة تنحصر في نيل دكتوراه تؤكد رفعة الأسرة وأي دكتوراه تفي بالغرض وما يدعو إلى الدهشة هو أن الاختيارات عندي كانت متساوية" إن ذلك الاهتمام الشديد بالألقاب في النمسا لم يَعُدء قائماً الآن وإنما كان سائداً قبل الحرب العالمية الأولى قبل انهيار الامبراطورية النمساوية حين كان النظام الاجتماعي يحتفي بالظاهر ويقاوم التغيير ويؤمن بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ويركز على الأمن ويكرِّس الامتثال الأعمى ويربي على الطاعة المطلقة ويرسِّخ تقديس السائد ويتعامل مع المألوف بمهابة وإجلال ويستهين بالشباب حتى لو كانوا متميزين ويبالغ في تقدير كبار السن حتى لو كانوا جَهَلَة كما كان يهتم بالتباهي والتفاخر فتتنافس الأُسَر بالألقاب في تأكيد امتيازها والبرهنة على مكانتها أما بعد الحرب فإن الرؤى قد تغيرت والمفاهيم تبدلت وجرى إعادة ترتيب منظومة القيم ومع ذلك فإن آثار تلك الرؤية الشكلية العقيمة ما زالت شديدة التأثير على الحياة في النمسا لأن تغيير المفاهيم المستقرة أصعب من زحزحة الجبال ويكفي أن نقارن بين ألمانيا والنمسا في الإبداع الفكري والفلسفي والأدبي وفي التطور الصناعي والتقدم العلمي والازدهار الاقتصادي وفي المكانة الدولية لنرى الفرق الهائل بين البلدين رغم أن كليهما ينتمي إلى عرق واحد ويتكلم لغة واحدة وهذه الحقيقة ذات دلالة كبيرة في تأكيد الأثر الحاسم للنظام الاجتماعي فهو الذي يحدِّد اهتمامات الناس ويوجِّه نشاطهم فليست أوضاع المجتمعات سوى نتاج الاهتمامات الشائعة في كل منها أما التماثل العرقي واللغوي في ألمانيا والنمسا فلم يكن له ذلك الأثر المزعوم فاتحاد العرق واللغة بين الشعوب المختلفة لا يؤدي إلى تماثل الاهتمامات وهذه الحقيقة يؤكدها الاختلاف الواضح بين شطري ألمانيا قبل توحيدهما كما يؤكدها هذا الاختلاف الشديد بين ألمانيا والنمسا مع أنهما يتكلمان لغة واحدة وبالمقابل فإن اختلاف الأعراق واللغات داخل المجتمع الواحد لا يؤدي إلى اختلاف الاهتمامات وأقرب شاهد على ذلك اهتمامات الشعب السويسري فرغم تعدد أعراقه ولغاته فإن اهتماماته موحَّدة فهو متجه كلياً لبناء الازدهار كغاية يعمل لها الجميع. إن الشعب السويسري بمختلف أعراقه ولغاته يتميز بانضباطه الصارم وإنتاجيته الغزيرة ومهاراته العالية وصناعاته الدقيقة واقتصاده المزدهر مما حقق له هذا الرخاء الباذخ رغم أن السويسريين في الشمال يتكلمون اللغة الألمانية وهم في الغالب من العرق الجرماني وفي الجنوب يتكلمون اللغة الايطالية وهم في الغالب من العرق الروماني وفي الغرب يتكلمون اللغة الفرنسية وهم في الغالب من العرق الغالي فلم تؤثر عليهم هذه الاختلافات العرقية واللغوية لأن النظام الاجتماعي وجَّه اهتمامهم نحو تحقيق الازدهار فتميزوا بالإنتاج الغزير والأداء المتقن وتطبعوا بالمهارات العالية ولم يهتموا بالألقاب الفارغة. ونعود لتجربة ستيفن زيفايج حيث أنه في الاهتمام باللقب لم يكن يهمه ولا يهم أهله نوع التخصص بل المهم عند أهله أن يحمل اللقب أما المهم عنده فهو أن يرضي أهله في هذا المجال ليتفرغ لاهتماماته الذاتية فقد كان مقتنعاً أن التعليم النظامي لا ينتج المبدعين وأن ذوي المواهب ليسوا بحاجة إليه بل إنه يضرهم أكثر مما ينفعهم فهو يستهلك وقتهم وطاقتهم فيما لا يهمهم ويصرفهم عن اهتماماتهم الذاتية التلقائية وربما أفسد قابلياتهم فهو يقول: "ولأنني وقفت نفسي على الأدب منذ وقت طويل فإن أياً من مناهج الجامعة المعتمدة لم يثر اهتمامي كان عندي ارتيابٌ خفي في كل النشاطات الأكاديمية وهو ارتيابٌ لم يفارقني حتى هذا اليوم أنا مقتنع أن المرء يمكن أن يصبح فيلسوفاً أو مؤرخاً أو عالماً لغوياً أو محامياً ممتازاً أو ما شاء من غير أن يدرس في جامعة أو حتى ثانوية ولقد تأكد عندي مرات عديدة أن بائع كتب مستعملة يعرف عن الكتب أكثر من أساتذة الأدب وأن معرفة باعة اللوحات الفنية تفوق معرفة مؤرخي الفن وأن قسماً ليس بالقليل من الاكتشافات والإلهامات في المجالات كافة قد قام بها أشخاص من خارج الجامعات ومع أن الدراسة الأكاديمية قد تكون عملية مفيدة وناجعة لمتوسطي المواهب فإنها فائضة بالنسبة إلى الطبائع ذات الإنتاج الفردي وربما تتحول إلى عائق لها" فالتعليم النظامي المنغلق مطلوبٌ لمتوسطي المواهب أما الموهوبون فإن هذا النوع من التعليم يعوق مواهبهم. إن هذه شهادة مهمة من خبير معترف بخبرته وموثوق بحكمه في المجال الثقافي على المستوى العالمي إنه لا يطلق الأحكام جزافاً ولكنه يتكلم عن تجربة ذاتية عميقة وثرية وساخنة عن فتوره ونفوره وضجره في التعليم النظامي وعن اضطراره رغم كل ذلك إلى مواصلة الدراسة حتى الدكتوراه تقابلها تجربة ذاتية مشحونة بالاهتمام التلقائي القوي المستغرق والشغف في الاطلاع الواسع والعميق على مختلف العلوم والمعارف والآداب والفنون وتجربة ذاتية في دراسة حياة المبدعين والاهتمام بهم وبإبداعاتهم ومعرفة منابع هذه الإبداعات والافتتان بالعباقرة وذوي التفرُّد والحرص على إدراك أسباب تفرُّدهم وتجربة ذاتية إبداعية له ذاته في مجالات متنوعة استحقت أن تُتَرجَم إلى لغات كثيرة وأن تكون محل اهتمام المتابعين وحفاوة المثقفين في الكثير من أقطار الأرض ولم يكن للتعليم النظامي أي إسهام في تكوينه الإبداعي بل كان التعليم عائقاً له فقد استهلك أثمن سنوات عمره وبدَّد الكثير من طاقته وصَرَفَه عن ذاته مدة طويلة لا يمكن تعويضها. إن ستيفن زيفايج وهو الذي يقدِّر قيمة الكلمة يؤكد أن تعليمه الحقيقي كان بمحض اهتمامه خارج المدرسة وأن التعليم النظامي قد استهلك وقته دون أن يقدِّم له شيئاً مقابل ذلك بل إنه يؤكد أنه في المرحلة الإعدادية والثانوية وَجَدَ أنه يعرف في المواد التي تهمه أكثر من معلميه فشعر بالضجر والإحباط ويقول: "لقد شعُرءنا بأننا لن نتعلَّم شيئاً مُهمّاً منها وأن كثيراً من المواد التي تهمنا كانت معرفتنا بها تفرق معرفة معلمينا المساكين الذين لا تحملهم رغبة شخصية على فتح كتاب منذ أعوام التلمذة" فالمعلّم والمتعلّم الذي لا تدفعه رغبة ذاتية عميقة إلى التعلُّم ولا يستمتع في عمله لن يكسب علماً لنفسه وسيكون أداؤه ثقيلاً عليه وغير مفيد لغيره. لكن ستيفن وزملاءه في فيينا الزاخرة بالفكر والعلم والفن لم يكونوا مرتهنين بما تقدمه لهم المدرسة بل كانوا يتلهفون إلى مبارحتها كل يوم لينطلقوا إلى آفاق الفكر والعلم والفن وكما يقول: "وأما خارج المدرسة فكان هناك في المدينة آلاف الأشياء الجذابة: المكتبات والمسارح والمتاحف.. مدينة حافلة كل يوم بالمفاجآت ولذلك فإن تعطَّشنا إلى المعرفة وتطلعنا الفكري والفني اللذين لم يتغذيا في المدرسة قد تاقا إلى كل ما هو خارجها" فالبيئة الثقافية في النمسا لم تكن بجدب المدرسة وانغلاقها وتحجُّرها وإنما كانت بيئة غنية ومفتوحة وحافلة ومثيرة وهذا هو الفرق بين البيئة الأوروبية والبيئات الأخرى المتخلفة فالطلاب في البيئات المتخلفة يخرجون من مدراسهم ذات النظام المنغلق إلى مجتمع أشد انغلاقاً مما يبقيهم أسرى بشكل مطلق. لقد أبدع ستيفن زيفايج في مجالات الشعر والمسرح والرواية والتاريخ والتراجم وفلسفة التاريخ ونَشَر ديوانه الشعري الأول قبل أن يبلغ عمره السادسة عشرة وهو ما زال تلميذاً في المرحلة الثانوية بل إنه وهو في تلك السن المبكرة كانت كبريات الصحف تنشر له في المواقع التي لا يُنشر فيها إلا للمشاهير ولكنه يؤكد أن كلَّ ما حصل عليه من معرفة وأدب وفن وتهذيب وفكر واهتمام قد بناه بنفسه وأنه لم يستفد شيئاً من التعليم النظامي بل إنه يتحسَّر كل التحسُّر على الوقت الثمين الذي أضاعته عليه المؤسسات التعليمية والضجر الذي عاناه داخل أسوارها. لقد كان هذا المبدع مولعاً بالمبدعين لأنه يؤمن بأنهم (بُناة العالم) فأفكارهم التي تتجاوز المألوف وإبداعاتهم التي تخترق الحواجز وتضيف الجديد هي التي تقود الحضارة الإنسانية نحو التقدم لذلك كرَّس اهتمامه في دراسة وإبراز التحولات المفصلية التي قادها المبدعون وكان لا يؤمن بالانتقالات الأفقية التي لا تحقق صعوداً للإنسانية ولا تمنح الناس مزيداً من الحرية والكرامة والانفتاح والفهم والتآخي فهو لم يكتب عن (مارتن لوثر) لأنه في نظره يريد أن ينقل الناس من انغلاق إلى انغلاق لكنه كتب بتفصيل وعمق عن معاصره (إراسموس) مؤسس النزعة الإنسانية وداعية التسامح المطلق فإراسموس حسب قوله: يقرُّ لكل فكرة بحقها ولا يُقرُّ لأي فكرة بالحق في أن تكون هي وحدها على الحق. لقد كان ستيفن زيفايج شغوفاً بالمغامرة ومعجباً بالمغامرين سواء كانوا مغامرين في مجالات الفكر أو في مجالات الفعل لذلك فإن كتابه عن (ماجلان: قاهر البحار) يُعَدُّ تحفة أدبية مثيرة ووثيقة تاريخية نادرة إنه تصويرٌ رائع لملحمة الإقدام الذي لا يعرف التردد والمغامرة التي لا تعترف بالخوف والأمل الذي يؤمن بإمكانات الإنسان المفتوحة والهائلة في التجاوز وتحقيق الفتوحات في كافة المجالات. ومثلما أنه مشدود إلى ذوي الإقدام الباهر الذين يفتحون للإنسانية آفاقاً جديدة ويكتشفون من الدنيا مجاهل قصيَّة كان اكتشافها أغرب من الخيال فقد كان أيضاً مشدوداً للعظماء من المفكرين والأدباء الذين يمحضون الإخلاص للمبادئ العظيمة لذلك فإنه رغم أن الكثيرين في الشرق والغرب قد كتبوا عن المبدع الروسي (تولستوي) فإن الدراسة التي كتبها عنه زيفايج تُعَدُّ الأجمل والأكمل. إن هذا الكاتب المدهش: بحسه المرهف وثقافته الواسعة وحماسه الملتهب وأسلوبه العذب يستطيع أن يغوص في أعماق المبدع وأن يبرز تجلياته الرائعة وأن يكشف نقاط ضعفه وأن يقيمه للقارئ حياً يخاطبه ويبثه خوالج نفسه. إن ستيفن زيفايج قد كتب أروع التراجم لحياة الكثير من المبدعين من أمثال: بلزاك وديكنز ودستويفسكي وهولدرلن وستندال وكلايست وغيرهم وله رؤية أخلاقية عالية كما يظهر من كتابه الرائع عن (كازانوفا) المتبذِّل فلقد هجاه هجاء لا مزيد عليه بأسلوب رفيع أخَّاذ وهو حين يريد أن يكتب عن فنان عظيم فإنه يمحضه كامل اهتمامه ويتجه إليه بكل ذاته فيقرأ كل ما كَتَبَ وأبدع وكل ما كُتب عنه ويحاور الذين زاملوه أو خدموه أو عاشوا معه ويزور المواقع التي عاش فيها ويدخل منزله ويتفحَّص أشياءه وآثاره وأدوات عمله وفنه ويقف عند قبره ويتحسًّس الأماكن التي تحرك فيها فلا تغيب عنه شاردة ولا واردة ولكنه لا يشغل القارئ بهذه التفاصيل وإنما يتمثَّل شخصيته في ذهنه ثم يرسم له بالكلمات لوحة حيَّة شاخصة وناطقة فما تكاد تبدأ في قراءة واحد من كتبه حتى يشدك بقوة ويستبقيك معه فلا تترك الكتاب حتى تنهيه.