"يا كلامي الكثير أجبني قليلاً: لماذا ال (لماذا) بدون إجابة؟!.. لأن ال (لأن) تخاف الرقابة..!" عبدالحكيم الفقيه شارف العقد على نهايته.. و(عيسى).. محبط من قضيته وقد اقتربت من ال 80 جلسة.. والقاضي مستغرق في تأملاته .. حيث كل جلسة يختمها بعبارته التقليدية: ( ترفع الجلسة للتأمل والنظر ) .. رغم أن القضية في عرف ( عيسى ) لا تستحق هذا الوقت المهدور .. من وقته ووقت المدعى عليه .. فضلاً عن فقدان العقار لقيمته خلال مدة نظر القضية ..! قبل ( 10 ) سنوات .. لا يزال يذكر ( عيسى ) تلك الأزمة المالية .. والتي عصفت به .. وألجأته إلى ( طلال ) .. اشترى بالآجل ( 60 ) سيارة بنظام التقسيط .. باعها عاجلاً في السوق .. وباع مقابلها عمارته الضخمة والتي تقترب من حاجز ال ( 5 ) ملايين ريال .. ومعرضاً كبيراً للمواد الصحية .. صورياً على ( طلال ) .. وكتبوا إزاء ذلك ورقة بينهما خالية من الشهود .. بصورية البيع .. وحقيقة الرهن .. وازدادت الأمور تعقيداً ..! صغر سن القاضي .. وبطء استيعابه .. أطال أمد القضية لمدد تقارب ال ( 10 ) سنوات .. كانت كافية لتخسف بسعر العقار المتنازع عليه دونما بوادر للحل تلوح في الأفق .. فضلاً عن الأوامر القضائية والتي شملت تجميد الحسابات البنكية لأطراف أدخلهم القاضي اجتهاداً ..! تشكّل المسؤولية التقصيرية مبدأً هاماً من المبادئ التي تناولها شرّاح القانون المدني فضلاً عن السادة الفقهاء .. وعرّفوها بأنها : العواقب التي تترتب على عمل يصدر من المسؤول نفسه .. وأن المسؤولية التقصيرية كالمسؤولية العقدية أركانها ثلاثة وهي الخطأ الواجب الإثبات .. والضرر .. وعلاقة السببية بينهما .. فإذا ثبت الخطأ وترتب عليه ضرر للغير فإن مرتكبه يلتزم بتعويض الغير عن هذا الضرر .. ولقاضي الموضوع حق تقدير قيام الخطأ .. كما له حق تقدير انتفائه .. خاضعاً في ذلك كله .. لرقابة المحكمة العليا في عملية تكييفه القانوني. وحيث إن المسؤولية التقصيرية تقوم على ركنين أولهما مادي وهو التعدي أو الانحراف .. والثاني معنوي نفسي وهو الإدراك والتمييز .. فإن السؤال الذي يبرز هنا .. وربما طرأ في ذهن الكثير .. ماذا لو كان هذا التقصير صادراً من فضيلة القاضي ناظر القضية ..؟! هذه المسألة بحثت بشكل دقيق من قبل فضيلة قاضي المحكمة العليا الاتحادية في السودان .. الشيخ محمد صالح علي .. مستخرجاً ضابطاً لا يستقيم معه مساءلة القاضي إلا إذا توافر : متمثلاً في أن يصدر القاضي حكمه ضد صريح النص : إما استهتاراً بالقانون .. أو استهتاراً بقصد المشرع .. أو خروجاً على ضوابط اجتهاد الفقهاء .. أو استخفافاً بحقوق المتقاضين. فمثلاً لو تشكلت في عقيدة أحد القضاة عدم شرعية أحد القوانين كقانون الرهن التجاري أو العقاري مثلاً .. وأصدر حكمه ضد صريح النص .. لعدم اقتناعه به أو لتعارضه مع ما يحمله من أفكار .. وترتب عليه ضرر فإن القاضي يسأل عن التعويض في ماله الخاص .. وليس للقاضي أيضاً رفض السير في الدعوى على أساس تفاهة ما يطالب به المدعي .. استخفافاً بحق المدعي .. أو أن يذكر القاضي للشاكي أو المدعي بأن دعواه مآلها الرفض وذلك قبل أن يصدر الحكم فيها .. ولا أن يذكر له بأن قيمة الدعوى لا تساوي الجهد الذي يبذله فيها وإنما يجب عليه أن يتقيد بالنص و لا شيء سواه. إن مسئولية القاضي المدنية يجب أن تتحقق بمجرد وقوع الضرر بسيطاً كان أم جسيماً .. طالما توفرت شروط مساءلته.. على إنه إذا كان الضرر الواقع من الخطأ جسيماً.. بحيث لا يعقل وقوعه دون إهمال كبير أو قصد .. فليس بالضرورة أن تبحث المحكمة العليا عن الإهمال أو سوء القصد .. وهذا الأمر إنما يضبط بأمور لا بد من المسارعة بتشريعها أولاً وتطبيقها ثانياً: * أن يعاد النظر في كيفية اختيار القضاة بحيث يتم اختيارهم من الجهات العدلية النظيرة بدلاً من الخريجين مباشرة. * تفعيل دور ( دائرة التفتيش القضائي ) .. خصوصاً بعدما سلخت من وزارة العدل لصالح المجلس الأعلى للقضاء .. وإخراجها من شرنقة التقليدية التي تسم أعمالها حالياً حيث بعث الشكاوى للقضاة وطلب الرد عليها كتابياً دونما مزيد جهد !! .. إلى آفاق أرحب تنظر فيها الدائرة في الأخطاء القضائية الجسيمة. * أن يعوض المتضرر من مال القاضي الخاص في الحالات التي يتضح فيها بأن القاضي سبب ضرراً للغير باستغلاله لمنصبه .. أو باستهتاره بواجبات وظيفته .. أو بإهماله غير المبرر في أدائها. * أن تسارع المحكمة العليا بإصدار قواعدها القضائية العامة متضمنة طبيعة الأخطاء التي يسائل عنها القاضي. لأني متفائل كثيراً بالمرحلة الجديدة للمجلس الأعلى للقضاء .. ومباشرة المحكمة العليا لأعمالها قريباً .. فإني أتمنى فعلاً ألا تذهب أمنياتي أدراج الرياح. *الباحث في الأنظمة العقارية