نشر نجيب محفوظ روايته العظيمة "بداية ونهاية" عامَ 1949 مصوراً فيها معاناة عائلة فقيرة تواجه أقدار الحياة بعد وفاة عائلها. وقد تكررت نفس القصة تقريباً بمحاورها الرئيسية في فيلم إيطالي جميل يدعى (روكو وإخوانه- Rocco and His Brothers) للمخرج لوتشيانو فيسكونتي عام 1960؛ في تشابهٍ مثير يطرح تساؤلاً هاماً عن علاقة الأدب بالسينما ومدى تأثر كل واحد منهما بالآخر. فالواضح أن المخرج الإيطالي الكبير فيسكونتي لا يعلم شيئاً عن الرواية المصرية التي لم تترجم في ذلك الحين إلى أي لغة, كما أن نجيباً كان معاصراً للفيلم ولم يبدر منه ما يوحي بأن الإيطاليين قد سطوا على إبداعه. فكيف والحال هذه أن تَشَابَه العملين كل هذا التشابه؟. إن أي فنان يدّعي أن عمله الفني من إبداعه الخالص إنما هو واهم ويخدع نفسه, إذ لا يوجد شيء اسمه ابتكار من العدم, فلابد من التأثر والتأثير ولو بصورة لاواعيه. فالفنان يقرأ ويشاهد ويلاحظ ما يجري حوله ثم من محصلة هذا كله يصنع عمله الخاص وفق مزاجه الخاص. وقد لا يكون منتبهاً لهذا التأثر فيتوهم أن الفكرة التي قدمها الآن في عمله الجديد هي من ابتكاره الخاص بينما هي فكرة قديمة أبدعها فنان سابق. هذا إذا سلّمنا بوجود رابط بين عملين, وتأثر أحدهما بالآخر, وإلا فقد يكون منبع التشابه بين "بداية ونهاية" و"روكو وإخوانه"هو –فقط- تشابه الظروف التي نشأ فيها العملين, بمعنى, أن نجيب محفوظ عاش في واقع يشبه الواقع الذي عاش فيه فيسكونتي, ففكر الاثنان بنفس الطريقة وأنتجا نفس القصة تقريباً. يحكي فيلم "روكو وإخوانه" قصة عائلة فقيرة تهجر جنوب إيطاليا متوجهة إلى مدينة ميلان بحثاً عن حياة أفضل من حياة الفقر التي تتهددها بعد وفاة الأب. ومن المشاهد الأولى في الفيلم, نرى الأم وهي تستقل حافلة الركاب مع أبناءها الخمسة وتحمل في يدها ورقة كتب فيها عنوان ابنها الكبير "فينشينزو" الذي سبقهم بالعيش في ميلان. كانت آمال أفراد العائلة واسعة، لكنهم بمجرد لقائهم بالابن الأكبر يكتشفون قسوة وبشاعة الحياة في مدينة كبيرة. المخرج لوتشيانو فيسكونتي أحد رواد الواقعية الإيطالية وصاحب الروائع السينمائية (موت في البندقية- Death in Venice) ,1975 (وسواس-Ossessione)و(الفهد-The Leopard) 1963 قسّم حكايته في "روكو وإخوانه" إلى خمسة فصول حمَِل كلاً منها اسم أحد الإخوة والقاسم المشترك بين الفصول الخمسة هو معاناة العائلة وتأرجحها بين الرغبة في عيش أفضل وبين الحنين لحياة البساطة التي تركوها خلفهم في الريف الإيطالي. كل ذلك يقدمه فيسكونتي بروح واقعية وصورة متقشفة وبسيطة إلى حد السحر. ومثل ذلك فعله نجيب محفوظ في رائعته "بداية ونهاية" حين بدأها أيضاً بنبأ وفاة رب العائلة "كامل أفندي" الذي ترك خلفه ثلاثة أبناء وزوجة وبنت دميمة لا تملك من الجمال قيد أنملة ليعيش الجميع في قلب القاهرة بلا معيل محاطين بالفقر والبؤس، ومجبرين على خوض صراع من أجل البقاء, تماماً مثل روكو وإخوانه. التشابه بين العملين يبرز أولاً في وجود الأم الصارمة التي تدير شئون عائلتها بقبضة من حديد, فالأم الإيطالية هي نفسها الأم المصرية, وبمزايا شكلية واحدة. ثم في شخصيات الأبناء, فالمصري حسن الفاسد والمتبطل الذي يعيش مع امرأة عابثة هو تقريباً الملاكم الإيطالي سيمون -شقيق روكو- الذي يعيش حياة متهتكة مع صديقته, وروكو البريء الذي يحلم بحياة هادئة مطمئنة هو نفسه حسين في رواية نجيب محفوظ. أما النقطة الأهم في هذا التشابه فتكمن في شكل القصتين وأسلوبهما الواقعي وغاياتهما الفلسفية التي ترسم معاناة الإنسان مع أقدار الحياة. وحالة التشابه بين هذين العملين ليست الوحيدة في عالم الفنون، إذ هناك عدة أعمال تلتقي فيما بينها في أسلوب السرد أو طبيعة الفكرة أو في روحها وجوّها العام. نذكر من ذلك تشابه الفكرة والأسلوب بين القصة النرويجية (فتاة البرتقال) للروائي جاستين غاردر – مؤلف رواية "عالم صوفي"- وبين الفيلم الرومانسي الأمريكي (Definitely, Maybe) فكلا الاثنان يعرضان قصة أبٍ يكشف لابنه الوحيد جزءاً من ماضيه الرومانسي. ونجد تشابهاً أيضاً يجمع بين رواية "الخلود" للتشيكي ميلان كونديرا وبين فيلم (النافورة- The Fountain) 2007 للمخرج دارن آرنوفسكي, ونقطة التلاقي هي في أسلوب السرد المفكك الغريب, والمتطابق بين العملين، إلى درجة الجزم أن آرنوفسكي قد قرأ الخلود حتماً واستوحى منها قالبه السردي. هذه الأمثلة تقول لنا أن أفكار المبدعين تتلاقح وتؤثر وتتأثر فيما بينها في تفاعل فكري مستمر, وأي تشابه بين عملين لا يعني أن أحدهما قد اقتبس عن الآخر مباشرة, بل ربما استفاد منه استفادةً بعيدة لا واعية, لا يعرف هو من أين جاءت ولا مصدرها, كما حصل مع المخرج الأمريكي كوينتن تارنتينو الذي قدم عام 1994 مع فيلمه الرائع (بلب فِكشين-Pulp Fiction) أسلوباً سردياً أخاذاً نسف من خلاله مركزية عنصر "الزمن" وعبث فيه خالطاً الحاضر بالماضي والمستقبل, وهذا الأسلوب لو أمعنا النظر قليلاً فسنجده تكراراً لما قدمه الروائي الأيرلندي جيمس جويس في رائعته "أوليس" والروائي الفرنسي مارسيل بروست في ملحمته "البحث عن الزمن المفقود" والروائي الأمريكي ويليام فوكنر في "الصخب والعنف" وكل أدباء تيار الوعي الذي غمر الساحة الروائية منذ مائة سنة تقريباً.. فمن الذي سيقول الآن أن تارنتينو قد قرأ أعمال هؤلاء واستوحى أسلوبه منهم مباشرة؟.