في أحد مستشفيات بريطانيا، حيث يرقد ابني لعارض صحي بسيط ألم به، وحيث أرافقه أنا، وبينما كنت مستغرقا في القراءة إذ جذب انتباهي تلك الأم البريطانية وهي تحاور ابنها ذي الأربع سنوات، والذي كان يلعب مع ابني في زاوية اللعب المخصصة للأطفال، وكيف كانت تحاوره بطريقة مهذبة وهي تأمره بأن يجلس على الكرسي، وكيف أنها تسبق الأمر بكلمة «لو سمحت»، وكيف أنها بادرته بعبارة الشكر والثناء عندما استجاب لأمرها، إنه الرقي بالتعامل يا سادة، ذلك الرقي الذي نفتقره في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فعلى جميع المستويات تجد الرقي هنا، ونقيضه هناك، أي عندنا، مضى على وجودي هنا - في بريطانيا وليس في المستشفى - قرابة العام، لم أسمع خلالها صوت منبه السيارة في الشوارع، الا مرات معدودات وفي حالات نادرة، بينما نجد منبه السيارة مدوياً في شوارع العواصم العربية، أليس هذا السلوك الأخير دليلاً على قلة الوعي إن لم يكن دليلاً على قلة الذوق،، فإن كل سائق يسب ويشتم الآخر بمنبه سيارته، وخلال وجودي هنا، رأيت احترام الطوابير واحترام حق أولوية الخدمة، طوابير في كل مكان، في الجامعة أمام مقدمي الخدمات، في المطاعم، في الأسواق، في المستشفيات، في الشوارع، السيارات تصطف بانتظام وكل يعرف طريقه لا أحد ينتقل بعشوائية واستهتار من مسار إلى مسار، السيارات تسير بالشوارع وكأنها تمشي على إيقاع منتظم، لوحة جمالية رائعة يستغرق بها الحس المرهف ويفنى في جمالها. إن من أسباب هذا التناغم الجميل والتناسق الرائع في المجتمعات الغربية في نظري هي تلك المرأة التي بدأت مقالي بالحديث عنها، وكيف أنها أنشأت أبناءها - بالقدوة الحسنة - على الاحترام، احترام الذات واحترام الآخرين، فنحن نعلم أبناءنا ونوجههم بأن يقولوا «شكرا» و«لو سمحت»، وما إلى ذلك من العبارات اللطيفة، في جميع تعاملاتهم مع الآخرين، ولكننا للأسف لا نستخدم هذه العبارات معهم، فتلقيننا لهذه العبارات لهم لن يجدي، لأنهم لم يتعلموا بالاقتداء، فالتعلم بالاقتداء أعمق تأثيراً في النفس البشرية من التعلم بالتلقين، وهذا المثال ينطبق أيضا على المعلمين والمعلمات بالمدرسة، فقد لاحظت - كما لاحظ غيري - ان المعلمات والمعلمين في المدارس البريطانية يستخدمون هذا الأسلوب مع الطلاب والطالبات، بينما نفتقر إلى هذا الحس في مدارسنا، بقي أن أشير - من باب الإنصاف - إلى أنه ليس كل أفراد المجتمعات الغربية يعاملون أبناءهم بهذا الأسلوب فهناك أفراد في المجتمعات الغربية سيئو التعامل مع أبنائهم، ولكن هؤلاء هم شذوذ القاعدة، بالمقابل لابد أن نشير أنه ليس كل أفراد المجتمعات العربية والإسلامية لا يعاملون أبناءهم بهذا الأسلوب الراقي، فهناك من يربي أبناءه بالاقتداء، ولكن أولئك هو شذوذ القاعدة أيضاً. أما السبب الآخر في خلق هذا التناغم الجميل الذي أشرت إليه، فعائد إلى ذلك النظام الصارم والدقيق الذي لا يستثني أحداً، فمن أمن العقوبة أساء الأدب، وأنا حين اشير الى النظام - في هذا المقال - فاني أقصد النظام الذي يحكم الشارع، وعلى ذلك يمكن قياس باقي الأنظمة التي تحكم سير المجتمع، فلكي يتمكن الشخص من قيادة السيارة مثلا في شوارع بريطانيا لابد أن يجتاز اختبارين أحدهما نظري، والآخر عملي، وكلا الاختبارين صارمان لا هوادة ولا محاباة فيهما، ولكي يتمكن الشخص من اجتياز هذين الاختبارين لابد له من تدريب عملي مكثف لا يقل عن أربعين ساعة على يد مدرب معترف به من قبل دائرة رخص القيادة، بالمقابل يصول ويجول في شوارعنا من لا يعرف أبجديات قوانين المرور، علاوة على افتقاره لبدهيات الذوق العام. وأخيراً، فكما بدأت مقالي بالمستشفى، اعود اليه فلقد نسيت ان اخبركم بأني حصلت على سرير لابني فور قدومي ومن دون واسطة أو توصية من أحد.