تعتبر العيادة النافذة التي يطل من خلالها الطبيب على المجتمع، والتي عادة ما تظهر فيها مختلف الصور والمشاهد التي تعبر عن الواقع بمختلف فصوله المتنوعة والمتوارية عن عيون المجتمع، والتي عادة ما تعشق الأضواء والنجومية، لكنها تنسحب من المشهد بهدوء عندما تكون الصورة حزينة وتعبر عن واقع أليم.. جاءت العائلة في الموعد مع الطبيب طلباً لعلاج ابنتهم التي تجاوز عمرها الأربعة عشر عاماً بأشهر.. الفتاة المصابة بداء الصرع منذ آخر ربيع لها في السابعة من عمرها، والتي توقف نموها الطبيعي هناك، ولم يعد الربيع هو فصلها المعتاد منذ ذلك الحين ،بعد أن تحولت سنواتها الأخيرة إلى خريف دائم تتساقط فيه زهرات طفولتها عام بعد عام، وتذبل أوراقها ثم تجف وتتلاشى، إلى أن أصبحت عوداً ناحلاً يخلو تماماً من أغصان و أوراق الربيع اليانعة.. لم تتقدم في تحصيلها العلمي لسبب بسيط، وهو أنها لم تستطع الاستمرار في سنتها الأولى الدراسية بسبب مرضها المزمن وأسباب آخرى، وعندما حاول الطبيب في البدء توجيه حديثه إلى الفتاة وجدها في حالة ذهول وتشتت، فهي لا تتكلم، ولا تتفاعل مع الأسئلة، ولا تستجيب لتلك الإشارات التي تحمل عادة في داخلها إيحاءات ومعاني المرح والعاطفة الأبوية والدفء الإنساني، لم ينجح الطبيب في إخراجها من حالة الصمت التي اختارت الفتاة أن تعيش في داخل زنزانتها منذ سنين عديدة.. (يا دكتور البنت ما عندها مشكلة الآن مع الصرع..التشنجات توقفت من يوم صارت تأخذ العلاج قبل سنتين، لكنها صارت ما تتكلم أبد، وتبكي بعض الأحيان بدون سبب، ويجيها في الليل كوابيس وخوف وبكاء وصياح) ..هكذا تداخل الأب ليفض محاولات الطبيب لكسر صمت الفتاة ونظراتها الحزينة واليائسة.. واصل الأب حديثه: (يا دكتور قصتها مع التشنجات طويلة وبدت من عمرها سبع سنين، صارت تسقط على الأرض وتنتفض مثل اللي في داخله كهرب، وتجيها النوبات في الليل والنهار وكل وقت.. كانت تعرف وقت النوبة.. تصير مثل الخايفة، ثم ترتعد مرعوبة كنها تشوف شيئاً أنا ما أقدر أشوفه ثم تتشنج، واستمرت على ها الحال، وأنا مدري وش أسوي.. ضعت يا دكتور مع الناس.. بعضهم يشير علي أروح للطبيب، و أكثرهم يقول أترك عنك الطب والمستشفيات.. البنت مسكونة بواحد من أهل الأرض، ولازم تروح لواحد يفهم في الجن وأمراضهم).. توقف الأب عن الكلام للحظات بعد أن خنقته دمعة عابرة، ثم أكمل حديثه الهادي بعد أن سيطر على عاطفته قليلاَ.. (المهم قررنا نروح لواحد دلونا عليه الجماعة في جنوبالرياض، ساكن في بيت طين قديم، ما فيه نوافذ على الشارع.. دخلنا عليه في غرفة مظلمة وكان رجال كبير، وعليه لحية طويلة، وشوارب عريضة، وعلى جبهته كوية، وجنبه نار دخانها يغطي سقف الغرفة، وثوبه وغترته وجدران غرفته سودا من الدخان أي والله يا دكتور، والله إني خفت، لكن الحاجة.. الحاجة.. حدتنا.. أيه تذكرت كان على أطراف النار أسياخ حديد أشكال وأنواع.. وصفنا له حالة البنت، وكان تشخيصه جاهز.. البنت مسكونة بجني سفلي وشرير، وقال إنه يحتاج إلى وقت وزيارات متكررة حتى يعالجها ويشفيها منه، وأخبرنا أن الجلسة بتكلف ألف ريال..المهم يا دكتور وافقنا ويا ليتنا ما وافقنا، وبدأ يستعد للجلسة الأولى). هل قلتوا للبنت تشخيص الرجل لحالتها وطريقته العلاج.. الطبيب مقاطعاً الأب! (يا دكتور ما شرحنا لها شيء، بنت صغيرة وجاهلة ما تفهم!، وما ودنا نخوفها!.. بدأت الجلسة بعد ما قال للبنت تنام على ظهرها، بدأ يقرأ عليها حكي ما نفهمه، ويضغط على كتوفها وعلى رقبتها بقوة، والبنت صارت تصرخ وتبكي وهو يقول أتركوها هذا هو الجني هو اللي يصارخ مهوب البنت.. تصدق يا دكتور أي والله إني أذكر إنه إذا ضغط على حلقها صوتها يتغير ويصير مختلف! ...المهم يا دكتور الجلسة استمرت كل أسبوع مرة، وعلى نفس الطريقة، وفي آخر جلسة طوًل الشيخ في جلسته، وضغط على صدرها بقوة، وصار يخنقها بيديه ويصرخ في وجهها..كنه يكلم الجني، ومن يومها صارت البنت مثل شوفتك، لا تتكلم ولا عاد تلعب مع خواتها.. ولا تنوم زين يا دكتور... البنت راحت علينا، ولا ندري وش نسوي). سأل الطبيب الأب: هل وقفت التشنجات بعد علاج الطبيب الشعبي! (لا والله زادت وصارت تتشنج كل يوم، ومن سنتين استسلمنا لأمر الله، و قررنا نشوف طبيب متخصص، وعطانا علاج حبوب، وتوقف الصرع، لكن البنت ما صارت مثل أول، تغيرت كثير، مثل ما تشوف يا دكتور، ...وجيناك نبيك ترجعها مثل أول!!).. برنامج الصرع الشامل