هناك مهارات، ومواهب ذاتية منحها الله لأُناس دون غيرهم، وتتطور المهارات والمواهب وتصقل بالممارسة والدراسة، وللتدليل على ذلك نأخذ موهبة الشعر، وموهبة الرسم، وقس على ذلك المكونات الشخصية للقيادة والإدارة، فليس كل واحد من البشر مؤهلاً ذاتياً ليدير عملاً، أو يقود بشراً مهما كان عمره أو كانت شهاداته.. حقاً القيادة ليست بالأمر الهين، وتولي الأمور إنما يكون بالكفاءة، والحنكة، والقدرة على تحقيق ما يسند إلى من يختارون للمهمات، والمعيار الحقيقي في هذه الحالات هو مدى جدارة من تسند إليه، لا كم عمره، أو ما هي شهاداته؟ { { { وهنا أنبه إلى أمرين: أولهما: قد تتوافر لدى شخص واحد شهادات علمية، وخبرات عملية نتيجة تجربة طويلة، ولكن إذا لم يكن ممن منحهم الله مواهب وقدرات ذاتية للقيادة والإدارة فإنه لن يتمكن من تحقيق ما قد يسند إليه من مهمات فمرد النجاج في القيادة والإدارة في المقام الأول هو الجدارة التي هي موهبة من الله خص بها بعض الناس. { { { ثانيهما: لا ينتقص من قدر شخص ألا تكون عنده القدرة على القيادة، فقد نجد عبقرياً يحمل أعلى الشهادات، بارزاً في ميدان تخصصه لكنه لم يُعطَ موهبة القيادة والإدارة القادرة والمؤثرة. فمن الأصلح له أن يستمر في العمل في تخصصه أياً كان. { { { هذا في كل شؤون الحياة.. اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب هو السبيل إلى تحقيق الأهداف العليا من كل عمل، والاستفادة من جدارة من تسند إليه في كل مجال. { { { نعم نحن ننتمي إلى عقيدة سمحة يقدِّر صغيرها كبيرها، ويحترمه ويجله، لكن هناك فرق بين الإجلال والتقدير والتعبير عن ذلك بشتى الوسائل، وبين إسناد الأمور إلى الأجدر والأكفأ. نعم نقدم الكبار في المجالس، ونظهر لهم كل دلائل الاحترام - والإفادة من تجاربهم الحياتية، ولكن تسند الأمور إلى من هو أكثر أهلية لها. { { { وللتأكيد قد تلتقي الحنكة والخبرة مع المهارة والكفاءة في بعض كبار السن لمهمة شاغرة بقدر أكبر ممن يصغرونهم عمراً، وقد يكون هناك من هو أصغر سناً لكنه يتمتع بخصال ومواهب قيادية تفوق ما عند من هو أكبر منه سناً. { { { ليس هناك من ضير أن يكون في قيادة عمل، أو إدارة شأن مهما كان حجمه ومقداره صغير سن يترأس في مؤسسة من هو أكبر منه سناً، والكفاءة مؤصلة في شريعتنا الغراء على أنها الشرط الأول في إسناد الأمور إلى من هم قادرون على القيام بها - ويتمثل ذلك في أمور شرعية كثيرة.. ففي إمامة المصلين يكون الأحق بها الأقرأ لكتاب الله - فإن كانوا في القراءة سواء فأكبرهم سناً. ومن هنا يتبين عملياً أن القدرة والتمكن من القيام بالمهمات هو العامل الأول في اختيار من تُسند إليهم. { { { وتاريخنا العربي والإسلامي يشهد بهذه المعاملة الراسخة: فقد اختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد لقيادة جيش المسلمين في حرب الروم - وكان عمره ثمانية عشر عاماً - ونفذ ذلك أبوبكر - رضي الله عنه - بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بل خرج أبوبكر مودعاً أسامة، وسار أبوبكر ماشياً، وأسامة راكباً، ورفض الصديق أن ينزل أسامة من على فرسه. { { { أمثلة كثيرة أخرى - لا مجال لسردها في حياتنا العربية والإسلامية تجعل القدرة والحنكة والكفاءة هي المعيار الأسبق لتولي المناصب والقيام بالمهمات - مهما كان سن من تُسند إليه. { { { من هذه الأمثلة التي تؤكد نظرية الجدارة في تولي المهمات، والقدرة على القيام بها مهما كان هناك مَنْ هو أكبر سناً هذه القصة التي دارت بين الخليفة عمر بن عبدالعزيز وأحد فتيان وفد الحجاز. (لما استُخْلفَ عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه - قدم عليه وفود أهل كل بلد، فتقدم إليه وفد أهل الحجاز، فاشرأب منهم غلام للكلام. - فقال عمر: يا غلام اجلس ليتكلم من هو أسنّ منك. - فقال الغلام: يا أمير المؤمنين إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله عبده لساناً لافظاً، وقلباً لاحظاً فقد أجاد له الاختيار، ولو أنّ الأمور بالسن لكان في مجلسنا هذا من هو أحق منك بالخلافة. - فقال عمر: صدقت.. تكلم فهذا هو السحر الحلال. - فقال الغلام: يا أمير المؤمنين. نحن وفد التهنئة، لا وفد المرزئة، ولم تقدمنا إليك رغبة ولا رهبة، لأنّا قد أمنّا في أيامك ما خفنا، وأدركنا ما طلبنا. فسأل عمر عن سن الغلام، فقيل: عشر سنين، (والمرزئة: الاستجداء وطلب النوال)). { { { وكمثل هذه المواقف الشاهدة فإن الوظائف والمهمات مهما كان مقدارها إنما يعتمد الاختيار لمن يتولونها على الكفاءة، والجدارة. ولذا يقال: إن أهم نجاح في أي عمل هو وضع الشخص المناسب في المكان المناسب: لكل مقام في الحياة مقال ولك أمر همة ورجالُ { { { هذا يشبه الدقة في اختيار ما يملأ به الإنسان فراغاً شاغراً، فلن يكون الشكل مقبولاً.. إلا إذا كان الاختيار دقيقاً، وعلى قدر الفراغ حجماً وشكلاً.. فالعبرة هي دقة المناسبة. وفي الوظائف عامة والقيادية منها خاصة ينبغي التجرد من العواطف والعلاقات الشخصية، والتركيز على الأكثر أهلية للمسؤولية، والأقدر على حملها. وما وُجدَتْ المقابلات الشخصية، واختبارات القدرات إلا رغبة في دقة اختيار الأكفأ - وإسناد المهمات إلى من هو بها أجدر، ولها أنسب. { { { وهكذا يتحقق ما قاله المتنبي في وصف الرجال والأعمال والمهمات: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم { { { وقال آخر: تخير ما يليق من الرجال كما تبغي المواقف، لا تبالي فرب صغير عمر في اقتدار ورب كبير سن في خبال { { { ويعزو كثير من الناس عدم كفاءة الإدارة العامة في بعض المصالح الحكومية إلى جعل الشهادات العلمية أحد معايير تولي الوظائف. والمتدبر في أمور الحياة من حولنا يدرك تفوقاً في الكفاءة لأُناس قد لا يحملون شهادات كغيرهم - كما لمسنا إخفاقاً ملحوظاً في بعض حملة الشهادات أياً كان مستواها، ويندرج في ذلك الخبرة، فبعض الناس تعطيهم الخبرة مزيداً من الحكمة والكفاءة، والبعض الآخر مع طول تجربته لم يزد منها خبرة أو كفاءة، بل إنها تكرار لأخطاء، وإخفاق منذ بدأ العمل. { { { الشهادات العلمية ليست سلعاً متفاوتة كل واحدة منها بقيمة مالية. ولنقتبس من تجربة دول جعلت الجدارة أساساً لتولي المهام والقيام بالمسؤوليات بصرف النظر عن المؤهل العلمي أو العمر، وكيف نجحت الإدارة فيها بل - حلقت، وفي بعض الدول النامية تتعثر بعض الإدارات لقلة جدارة من يديرونها، وليس بالضرورة أن من نجح في ميدان من ميادين العمل سيحقق النجاح نفسه في ميدان آخر.. هذا ما شهدت به كل التجارب، ليس في بلادنا وإنما في كل بلاد الدنيا حاضراً، وماضياً. { { { إننا لو استطعنا تحقيق قاعدة الجدارة للمنصب في كل حياتنا لسارت الأمور على خير ما يرام - وإن هجس في بعض النفوس أن فلاناً أجدر بهذه الوظيفة عمن أختير لها لكبر سنه وسنوات خدمته. { { { نعم الأقدمية لها معنى.. ولكن ليس على حساب الجدارة والقدرة في التصدي لما تتطلبه هذه الوظيفة، أو تحتاج إليه هذه المهمة. هل جميعنا مقتنع بهذه الحقائق وتلك النظريات التي ثبت أن العمل بها أنفع وأجدر لسير الحياة على أحسن وجه، وتحقيق المهمات بأكمل أداء؟ أرجو ذلك. { { { وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.