** أرجعتني الأزمة الشديدة التي يواجهها ميناء جدة الإسلامي..جراء تكدس البضائع على أرصفته.. وتحول البواخر الناقلة للسلع القادمة من الخارج إلى المملكة لميناء دبي..هرباً من حالة الاختناق التي يواجهها الميناء..أرجعتني إلى خمسة وثلاثين سنة سابقة..عندما كنت موظفاًً صغيراً في إدارة جمرك جدة.. وكنت أشاهد وأسمع خلالها آلاف القصص..والصور العجيبة لسلسلة من أعمال (الرشوة) و (التحايل) و (التدليس)..و(الالتفاف) على الأنظمة والتعليمات..لست الآن بصدد ذكر أسبابها وظروفها..فهي جزء من مذكراتي التي أعكف الآن على كتابتها تمهيداً لصدورها في الوقت المناسب.. ** لكن الشيء الملفت للنظر هو: ** أن العمل في كل من إدارة الجمارك وإدارة الميناء كان يسير بصورة طبيعية..وسلسة..وناجحة.. بفضل قيادة رجل قوي..وخبير..وحكيم..هو الشيخ (محمد نور رحيمي) مدير عام الجمارك آنذاك.. رحمه الله رحمة الأبرار.. ** وكان يؤازر هذا الرجل في تلك الفترة كل من عبدالرزاق هنداوي..ومدني بن حمد..وحسين هوندجي..رحمهم الله..بالإضافة إلى الأستاذ الفاضل ( عواد عبدالغفار) أدام الله عليه الصحة والعافية.. ** لقد كان ميناء جدة في تلك الفترة على درجة كبيرة من الكفاءة بالرغم من أنه كان يستقبل (85%) من السلع الواردة إلى المملكة..فيما كان يصدر معظم السلع والمنتجات السعودية التجارية غير النفطية إلى كل مكان في العالم.. ** وبدلاً من أن يتوسع هذا الميناء.. ** وبدلاً من أن يصبح صلة اتصال قوية بين المملكة وبين دول العالم.. ** وبدلاً من أن يصير قبلة كل البواخر والناقلات الضخمة إلى منطقة الخليج والجزيرة العربية وإفريقيا.. ** بدلاً من كل ذلك..أصبح هذا الميناء اليوم طارداً للبواخر والسلع الخاصة بأسواق المملكة.. ورجال الأعمال فيها..وبأقوات واحتياجات سكانها.. ** والعجيب..الغريب..أن يقف الجميع مكتوفي الأيدي أمام معالجة هذا الخلل البيّن.. ** وكل ما نشهده ونسمعه هو تبادل الاتهامات بين وزارة النقل وبين ِ"التجار"..بدرجة بلغت حد اتهام وزير النقل لهؤلاء التجار بالتسبب في الأزمة..بفعل استقدام سلع وبضائع مغشوشة وغير نظامية..الأمر الذي يضاعف مسؤوليات موظفي الجمارك في مراقبة هذه السلع قبل فسحها..وحماية المستهلك السعودي من آثارها..وتجنيب الاقتصاد السعودي لتبعاتها الضارة.. ** في الوقت الذي يتهم التجار فيه وزارة النقل ومؤسسة الموانئ بالعجز التام عن تطوير قدرة الميناء..وضعف إدارته..وسوء حالة أرصفته وتجهيزاته..وتقليدية العمل فيه.. ** ولاشك أن ما أعلنه الوزير (الصريصري) عن البضائع المغشوشة خطير جدا.. ** وإذا ثبت بالفعل أن هناك تجاراً يستوردون سلعاً مقلدة..ويملأون بها الأسواق..ويبيعونها للمستهلك على أنها سلع أصلية..فإن ذلك لا يجب أن يمر بسهولة..أو أن يتقبل بأي شكل من الأشكال بل إن علينا أن نحاكم هؤلاء.. ** وإذا كان هؤلاء التجار ضحايا لشركات منتجة للسلع المغشوشة والمصدرة إلى المملكة..فإن علينا أن نحظر التعامل مع تلك الشركات وندخلها ضمن قوائمنا السوداء..وأن نضع من الأنظمة والقوانين ما يمنع هذا العبث بحقوق المستهلك للسلع المستوردة من الخارج إلى السوق السعودية.. ** لكنني - وحتى التأكد من هذا الأمر - إلا أنني أعتقد أن المشكلة الأساس تظل مرتبطة بمدى عدم جاهزية الميناء لمواجهة حركة الاستيراد والتصدير..في ظل تنامي النشاط الاقتصادي وارتفاع معدلات التنمية في البلاد..واتساع دائرة الاستثمار في المملكة..وتزايد نشاط الشراكة التجارية بيننا وبين دول العالم الأخرى.. ** وعلى وزارة النقل ووزارة المالية ووزارة التجارة والصناعة ومصلحة الجمارك العامة..ومؤسسة الموانئ أن تتحرك بسرعة كافية..وأن تعمل على رفع كفاءة الميناء وتحديثه وتطوير آليات العمل والتجهيزات به..وتشغيله تقنيا بدل أساليب العمل التقليدية الحالية.. ** بل إن على هذه الجهات أن تسعى إلى إيجاد ميناء جديد كلية..يكون في مستوى النمو الاقتصادي الشامل الذي تشهده البلاد وتستعد له..بدلاً من (رمرمة) أوضاع الميناء الحالي المتهالك.. وإلا فإننا لن نجد باخرة واحدة ترسو على أرصفته بعد عامين من الآن..وعندها فإن تبادل الاتهامات لن يحل لنا مشكلة..بل سيجعل اقتصادنا الوطني يتحمل تبعات الهروب الدائم من مواجهة المشاكل بحجمها الطبيعي.. والله المستعان.. ضمير مستتر: ** [ استئصال المشاكل..مطلوب في كل الأحيان..بدل التعايش معها..]