هل يتم فتح الحدود التركية الأرمينية؟ هذا السؤال يتداوله اليوم الساسة والصحفيون في تركيا. وعلى نحو أوسع في شقيقتها أذربيجان. ولأول وهلة، قد يبدو المرء أمام قضية عادية، ذات صلة بمشاكل الحدود المعتادة بين كثير من الدول. بيد أن الأمر هنا مختلف على نحو تام. إننا بصدد مشكلة سياسية، ذات أبعاد قومية وتاريخية، وذات ارتباط وثيق بصراع جيوسياسي إقليمي، وتوازن حساس للقوى، في القوقاز الكبير. وعلى نحو أكثر تحديداً، فإن قضية الحدود التركية الأرمينية ترتبط بصورة مباشرة بالنزاع الأرميني الأذربيجاني، أو لنقل بالاحتلال الأرميني لمساحة شاسعة من أراضي أذربيجان، الدولة الشقيقة لتركيا، التي شُيّدت على الروابط التحالفية بينهما منظومة واسعة السياسات، والمشاريع الإقليمية النطاق، بل والدولية أحياناً. كذلك، يجب التشديد في الوقت ذاته، على أن موقف تركيا من النزاع الأرميني الأذربيجاني، لا يتصل فقط بمقاربتها للعلاقة الخاصة بأذربيجان، بل أيضاً بخياراتها الإقليمية والدولية الأوسع مدى. وفي المقدمة من ذلك، قضية التوازنات في القوقاز. وقبل الحديث عن السجال الدائر بشأن فتح الحدود التركية الأرمينية، المغلقة منذ العام 1993، يجدر بنا التطرق بداية للقضية الأم، التي يتمحور حولها جوهر النقاش، وهي النزاع بين أرمينيا وأذربيجان. فقد استطاع الجيش الأرميني، بمعاونة المليشيات الأرمنية في إقليم قرة باغ الأذربيجاني، من فرض سيطرته على مناطق أذربيجانية واسعة، في عامي 1993 – 1994، واحتل أراضي يصل إجمالي مساحتها أربعة عشر ألف كيلومتر مربع، هي عبارة عن إقليم قرة باغ وسبع قرى محيطة به. ويفوق اتساع هذه الأراضي مساحة دولة بحجم لبنان. وقد نجح العدوان الأرميني في تحقيق هذه المكاسب نتيجة دعم روسي، مادي ولوجستي، واسع النطاق. وفي آذار مايو من العام 1994 ، وقع ممثلون عن أذربيجان وأرمينيا، ومليشيات قرة باغ ، اتفاقية وقف إطلاق النار، خلال اجتماع ضمهم في مدينة بشكيك القرغيزية. وقد رعت روسيا هذه الاتفاقية، التي جمدت النزاع، دون أن تمحي آثار العدوان، أو تضع آلية قادرة على تحقيق ذلك. وهناك حالياً ما يُعرف ب "فريق مينسك"، المنبثق عن منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، والذي تقوده مناوبة كل من روسيا والولايات المتحدة وفرنسا. ويهدف هذا الفريق إلى تفعيل الحوار المتعدد الأطراف، بحثاً عن حل سياسي للأزمة. وأذربيجان دولة قوقازية، تبلغ مساحتها 86 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها ثمانية ملايين وسبعمائة وخمسين ألف نسمة. ولها حدود مشتركة مع خمس دول، هي: أرمينيا وجورجيا وتركيا وروسيا وإيران. كما لديها ساحل على بحر قزوين يصل طوله 713 كيلومتراً. وقد استقلت عن الاتحاد السوفياتي في 30 آب أغسطس 1991. وأقر دستورها في 12 تشرين الثاني نوفمبر 1995، ثم جرى تعديله، عبر استفتاء عام، في 24 آب أغسطس 2002. وحسب كتاب (The World Fact Book - 2008) ، الصادر عن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي أي أيه)، والذي جُددت بياناته في 9 نيسان أبريل الجاري، فقد حقق الاقتصاد الأذربيجاني نمواً عالياً في الفترة بين 2007 – 2008، تجاوز 11 في المائة، مستفيداً في ذلك من ارتفاع أسعار النفط، ونمو قطاع الإنشاءات. وفي العام 2008 ، بلغ الناتج القومي للدولة ثلاثة وسبعين مليارا و650 مليون دولار، صعوداً من ثلاثة وخمسين مليارا و480 مليون دولار في العام 2006. ويساهم قطاع الخدمات بأكثر من ثلاثين في المائة من الناتج القومي الإجمالي، وتصل حصة الفرد من الناتج القومي تسعة آلاف دولار. وبالعودة إلى قضية الحدود التركية الأرمينية، فقد أغلقت هذه الحدود في العام 1993، بأمر من الرئيس التركي حينها، سليمان ديميرل، احتجاجاً على الاحتلال الأرميني للأراضي الأذربيجانية. ويبلغ طول هذه الحدود 268 كيلومتراً، فيما تبلغ الحدود الأذربيجانية الأرمينية 566 كيلومتراً، والأذربيجانية التركية تسعة كيلومترات. وفي العاشر من نيسان أبريل الجاري، أعلن الرئيس الأرميني، سيرج سركيسيان، إنه يتوقع فتح الحدود مع تركيا هذا العام، بالتزامن مع مباراة الإياب في كرة القدم، المقررة بين البلدين في تشرين الأول أكتوبر القادم. وقال سركيسيان: "اعتقد أنني سوف أتوجه إلى تركيا لحضور المباراة المقبلة، على أن اجتاز حدوداً مفتوحة". وكان الرئيس التركي، عبد الله غول، قد قام بزيارة تاريخية لأرمينيا، في السادس من أيلول سبتمبر الماضي. وكانت المناسبة حضور مباراة بين البلدين في كرة القدم. وجرى خلال الزيارة بحث إمكانية إعادة العلاقات الأرمينية التركية، وإنشاء منظمة جديدة، تُعنى بالأمن والاستقرار في القوقاز. وكان رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، قد دعا إلى إنشاء هذه المنظمة، بهدف تطويق التوترات القائمة في القوقاز، والسعي إلى معالجتها عبر آليات جماعية مشتركة. وجاءت دعوة أردوغان خلال زيارة قام بها إلى موسكو في 12 آب أغسطس الماضي. وقد شهد اليوم التالي لزيارة غول لأرمينيا محادثات بين وزيري خارجية روسيا وأذربيجان، تناولت مشاركة هذه الأخيرة في المنظمة المقترحة، التي يُفترض أن تضم إلى جانب تركيا وروسيا كلاً من أذربيجان وأرمينيا وجورجيا. وهذه الأخيرة هي الدولة الوحيدة التي تتحفظ حتى الآن على المبادرة التركية، حيث تربط موافقتها بانسحاب القوات الروسية من أبخاريا وأوسيتيا الجنوبية. وفي وقت لاحق، ذكرت صحيفة "حريت" التركية، أنه فيما يتصل بالعلاقات التركية الأرمينية، على وجه التحديد، فإن تركيا تنوي تقديم عرض خاص لأرمينيا يقضي بإيفاد سفير مفوض إلى يريفان من دون فتح بعثة دبلوماسية. ورأت الصحيفة أن ذلك سيكون ممكناً في حالة موافقة السلطات الأرمينية على تشكيل اللجنة الخاصة بالتحقيق في أحداث العام 1915، بعيداً عن المزاعم التاريخية. ولم يتم تأكيد هذا التقرير من قبل جهات رسمية. وفي قضية الحدود التركية الأرمينية، على وجه الخصوص، ثمة مقاربات كثيرة، القاسم المشترك بينها هو التأكيد على الثوابت القومية التي أسست للعلاقات الوثيقة بين تركيا وأذربيجان، وفي المقدمة منها رفض الاحتلال الأرميني للأراضي الأذربيجانية، واعتباره أصل المشكلة القائمة. يقول رئيس بلدية قاراقويونلو التركية الحدودية، زياد علي دليكداش، وهو عضو في حزب العدالة والتنمية الحاكم: إن أكثر السكان المحليين يعارضون فتح الحدود، "إننا أمة واحدة في دولتين. ولقد تم احتلال قرة باغ من قبل الأرمن بقوة السلاح. ويجب على أرمينيا أن تنسحب من الأراضي الأذربيجانية المحتلة. وأن تتخلى عن مزاعم الإبادة الجماعية المزورة. إن فتح الحدود سيعطي مردوداً معيناً من وجهة النظر الاقتصادية. ولكن هذا ليس هاماً كثيراً ". وقال باحثون أتراك، إنه بالإضافة إلى الاعتبارات القومية والتاريخية للعلاقات التركية الأذربيجانية، فإن لأذربيجان أهمية كبيرة على صعيد استراتيجية الطاقة التركية، وهي جزء أساسي من مشروع "نابوكو"، وإنّ خسارتها سوف تعني زيادة نفوذ روسيا وإيران في القوقاز. وفي أذربيجان ذاتها، انطلقت حملة توقيعات تحت عنوان "لنمنع فتح الحدود التركية الأرمينية". وتقرر جمع توقيعات أهلية، وتوجيه نداء للقيادة التركية بهذا الشأن. وعلى خلفية التطوّر ذاته، توّجه إلى تركيا وفد من منظمات المجتمع المدني الأذربيجاني، للقاء المسؤولين الأتراك، وحثهم على رفض أية فكرة لفتح الحدود مع أرمينيا قبل إنهاء احتلالها لأراضي أذربيجان. وغير بعيد عن ذلك، ذكر الموقع الإلكتروني لصحيفة (Azer News) الأذربيجانية، أن الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، قد رفض حضور منتدى "ائتلاف الحضارات"، الذي نظمته الأممالمتحدة في اسطنبول، في السادس والسابع من نيسان أبريل الجاري، تعبيراً عن معارضته لأي حديث حول فتح الحدود التركية الأرمينية في الوقت الراهن. وحسب التقارير الإعلامية، فقد اتصل بالرئيس الأذربيجاني، لحثه على حضور المنتدى، كل من رئيس تركيا، ورئيس وزرائها، إضافة لوزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون. ووفقاً لهذه التقارير، فقد اتصل أولاً الرئيس التركي، وعندما لم يستجب علييف، بادر رئيس الوزراء أردوغان بالاتصال به، إلا أنه ظل على موقفه. وبعد ذلك اتصلت وزيرة الخارجية الأميركية كلينتون. وقالت كلينتون – حسب هذه التقارير - لعلييف، في مكالمتها الهاتفية، أنه سيتم على هامش المنتدى تنظيم لقاء بينه وبين الرئيس الأميركي باراك أوباما، إلا أن موقف علييف لم يتغيّر. وقد بادرت القيادة التركية إلى تخفيف الاحتقان، الذي زادت من حدته التقارير الإعلامية المشوشة. وأوضح رئيس الوزراء أردوغان، بأن تركيا ليست في صدد تطبيع علاقاتها مع أرمينيا قبل استعادة أذربيجان لأراضيها المحتلة، كما لا يوجد لدى حكومة تركيا أي قرار بفتح الحدود التركية الأرمينية. وإنها غير معنية بما قاله الرئيس الأرميني بهذا الشأن. وهكذا، يبدو واضحاً أن القضية قد أخذت حجمها السياسي والإعلامي المتوقع، وربما حاول البعض استثمارها لأغراض خاصة به، سيما في أرمينيا. والثابت في الأمر أن ما حدث قد أكد مجدداً الطابع الاستراتيجي والتاريخي المتين للعلاقات التركية الأذربيجانية، التي تُمثل اليوم ركناً أساسياً في معادلة الاستقرار في جنوب القوقاز. من جهتها، فإنّ الدول الإسلامية معنية، أكثر من أي وقت مضى، بدعم جهود منظمة المؤتمر الإسلامي، الرامية إلى خلق رأى عام دولي يقر بحق أذربيجان في استعادة مناطقها وبلداتها المحتلة، ويُلزم أرمينيا بتطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة. وإنّ النجاح في هذا الاتجاه سيعني نجاحاً لفرص الاستقرار الإقليمي، وتعزيزاً لمبادئ الأمن الدولي.